آراء حرة

الأستاذ الدكتور صلاح سلام يكتب.. البايكة

 عندما تدخل إلى بيتنا من الباب الكبير حيث الطرقة الواسعة التي كنا نلعب فيها الكرة أثناء حظر التجول وقت الاحتلال الاسرائيلي لسيناء…تصل إلى الباب الداخلي فتقع “المنضرة” على يسارك امامها فرندة كبيرة فإذا اكملت لقاع الدار “هكذا كنا نسميه”فيكون على يسارك اكتمال اصطفاف الغرف البحرية واستكمال الفرندة ولكن يفصلها عن فرندة ” المنضرة” حاجز بنائي وتدلف يمينا فترى شجرة الزيتون وبقايا شجرة الليمون التي تم قصها لأنها تعيق الحركة بكثرة شوكها ليكون أمامك مباشرة “البايكة”وهي غرفة الخزين السحرية ذات الحوائط الطينية التي تجعل جوها معتدلا طوال العام و التي يتدلى من سقفها المصنوع من خشب الجريد بعد التخلص من زعانفه مرصوصا في سطور تحملها عروق خشبية وتغطيها من أعلى طبقة طينية مخلوطة بتبن لتجعلها اكثر تماسكا عند هطول المطر …وتتدلى من وسط السقف حبال تحمل مشنة العيش المصنوعة من الخوص والتي تجعله بعيدا عن الزواحف ويغطيها قطعة من القماش الذي يسمح بالتهوية… وتمتلئ البايكة بكل الاحتياطي الاستراتيجي الذي يلزم كل الأرواح التي تعيش داخل البيت فهناك صفيحة خاصة للذرة لزوم البط والطيور واخرى للشعير لأكل الماعز وبالتأكيد كيس الدقيق ابو خط أحمر سعة مائة كيلو وهو اهم مكونات حصة التموين إلى جانب زيت السيريج والذي كان بعيدا كل البعد عن فصيلة الزيت المتداول الان…وكرتونة صابون الميزان الذي لايمكن أن ترى رغوته حتى لو قرأت المعوزتين فالمياة بها نسبة ملوحة فيتم بشره مع مياه المطر الذي كانت تخزنه والدتي في مربع اسمنتي بجوار المطبخ يرتفع عن الأرض قرابة المتر”الحاووز” او أن تستبدل الدقيق بمسحوق يبتاعه بعض النسوة من البادية وهو خلاصة حريق خشب الشجر يسمونه”القليي”ويتم مقايضة ربات البيوت الراسين براس اي كوز دقيق مقابل كوزين من المسحوق الرمادي الذي يساعد على امتصاص الاملاح من المياه …فلم يكن الرابسو ولا الايريال قد تم اكتشافهم او ربما لم يصلوا الى الجانب الاخر من القناة…ومازالت البايكة حافلة بشتى صنوف مستلزمات الحياة فهذه صفيحة العجوة وهي مصنعة منزليا بالكامل من مرحلة قطف البلح إلى تسويته رطبا إلى تشقيقه وتنشيفه على السطح حتى عجنه ببعض من الزيت والسمسم لنستمتع به كوجبة شهيةفي ليالي الشتاء مع قليل من السمن والبيض والذي كان أيضا منتجا محليا تسعى امي لجمعه صباحا من حوش الفراخ لوضعه في صفيحة الردة والتي كانت تستخدمها احيانا في غذاء الطيور أما صفيحة القمح فهي من حظ الحمام الذي تم تعليق صفحائه على الحائط الجانبي خارج البايكة… ولانه لم تكن الثلاجات موجودة في قاموس ذلك الزمن فقد كانت الحاجة وهيبة “ياسمين” تقوم بتحويل ماتبقى من لحمة العيد وما يصل إليها من اخوتها إلى مسبك”بكسر الباء” تضعه في صفيحة فاخرة وتغطية بطبقة من الدهن بعد تحويلها إلى الحالة السائلة وصبها على سطح اللحم الذي تم تسويته جزئيا…. وهذا أيضا بروتين يتم استخدامه اذا لم يتوافر بروتين طازج في الأيام العجاف وكذا كانت البايكة تحمل غذاء حوش الاغنام والتي شهدت ولادة احداهن في يوم مطير وكان اول تدريب عملي لي وانا في سنوات عمري الاولى… قبل أن أصبح طبيب ولادة فيما بعد… مع الفارق… ورأيت كيف نقلتها امي إلى مكان مغطى 



بعيدا عن زخات المطر واشعلت كانون النار بجوارها لتدفئها إلى أن تمت الولادة لتوأم …ومازالت الصفائح مغلقة منها العدس بانواعه والارز والفول والفاصوليا والبسلة التي تم تجفيفها من محصول الشتاء والملوخية الناشفة وتنتشر على الحائط عناقيد البامية ولفافات من الثوم ويزين وسط الغرفة قفص البصل وهكذا كانت البايكة سوبر ماركت …تقبع على مقربة منه غرفة الفرن وبجواره ثلاثية الأحجار التي نضع عليها الصاج لخبيز الفطير الذي كان اكلة شهية اذا طلعت الشمس في يوم شتوي حيث نشوي عليه السردين الطازج مع الفطير الساخن….ونظرا لان البايكة كانت في الجهة القبلية من الدار وبعيدة عن الشارع الجانبي الذي يطل على الشارع الرئيسي لمدينتنا الصغيرة فقد تم تفريغه تماما أثناء عدوان يونيو ١٩٦٧ ليصبح مخبئا للاسرة وبعض الجيران فقد يكون اكثر امانا وبعيد عن مرمى النيران حيث كانت حوائطه سميكة إذ تبلغ قرابة النصف متر فهي تقاوم الرصاص … وظل كذلك حتى انقضاء أيام الحرب ولا اعرف كيف استطاعت هذه الغرفة تجمع هذا الكم من البشر وتلك قصة اخرى…وما أن توقفت أصوات المدافع عادت البايكة لسيرتها الاولى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى