آراء حرة

دكتور محمد علي الطوبجي يكتب.. وهم كبير يعيشه بوتين مع نفسه

في الدول الديموقراطية ، واقصد بشكل خاص في امريكا والغرب ، يمكنهم أن يغيروا رؤساءهم ، وأن يحاسبوهم على اخطائهم ، وقد يصل الامر احيانا الي حد محاكمتهم وادانتهم فيها ، كما أن هناك إعلام حر لا يترك صغيرة او كبيرة إلا ويناقشها ويعلق عليها وينتقدها ، وقد رأينا كيف أن صحيفة الواشنطون بوست اطاحت في عام ١٩٧٤ بأحد اقوى الرؤساء الامريكيين على الاطلاق ، وهو الرئيس ريتشارد نيكسون ، لدوره الذي كشفت عنه الوثائق الصوتية المسربة عن فضيحة ووترجيت المعروفة ، والتي اتهم فيها نيكسون بسماحه لاتباعه بالتجسس علي خصومه الديموقراطيين في احد مقارهم الحزبية في واشنطون العاصمة.. ولولا العفو الذي صدر من الرئيس الجمهوري جيرالد فورد عنه باعفائه من المثول للمحاكمة، لانتهي به الامر الي السجن.. والآن يحاكم الرئيس الامريكي السابق دونالد ترامب عن مخالفات قانونية ودستورية منسوبة اليه وقد يدان عليها ولتقوده بعدها الي مصير مجهول.. فلا كبير عندهم هناك امام القانون… فسيف القانون حاضر طول الوقت علي رقبة الجميع… وهناك ايضا برلمانات تناقش وتحاسب وتسائل ومن حقها ان تمنح الثقة او تحجبها عن الحكومات ، وهي برلمانات تتغير وتتجدد دماؤها باستمرار طبقا لما تقضي به ارادة الناخبين من خلال صناديق الاقتراع.. فلا توجد في هذه الدول سلطة عامة تشريعية او تنفيذية لا حيلة للناس في تغييرها حتي وان كان اخفاقها ناطقا ومدويا. ومكلفا. واذا كان هذا يحدث في الغرب ، فان مثل هذه الديموقراطية لا مثيل لها في روسيا، فالسياسة كلها من صنع فرد واحد قابض علي زمام السلطة بيد من حديد لما يقرب من ربع قرن ولا تزال امامه سنوات اخري سوف يبقي فيها السيد المطاع في الكرملين لا يجرؤ احد علي معارضته او مخالفته في الراي.. وهذا هو احد اسباب الكارثة الاوكرانية التي ورط بلده فيها ولم يعد قادرا علي تدبير مخرج له منها.. ولو انه وجد حوله من كبار مستشاريه من يقبل منهم نصائحهم له، ويصغي الي آرائهم باهتمام ، لما كانت الامور قد ساءت الي هذا الحد.. والبرلمان الروسي او الدوما لا يجرؤ علي فتح ملف هذه الحرب ليكون له راي في كل ما يجري وهو داعم ومساند بلا قيد او شرط لكل قرارات ومواقف الرئيس بوتين ، والدائرة الثلاثية المحيطة به من كبار المسئولين في ادارته وهم نائبه للامن القومي دينتري ميدفيديف ، ووزير خارجيته سيرجي لافروف ، ووزير دفاعه سيرجي شويجو ، ينفذون اوامره وتعليماته لهم حرفيا وينطقون بما يمليه عليهم والذي كثيرا ما استغربه منهم لضحالته وعدم واقعيته ولا يتفق مع خطورة مواقعهم ، ومن ثم ، وكما اعتقد ،فانه لا دور لهؤلاء المسئولين في صنع قرارات استراتيجية مصيرية وخطيرة كقرارات ادارة الحرب الاوكرانية او في علاقات روسيا المتدهورة مع دول الناتو والاتحاد الاوروبي او في غيرها من القضايا الدولية الساخنة التي تؤثر في امن روسيا القومي ومصالحها العليا بشكل مباشر ومهم ، ناهيك عن العقوبات الدولية الصارمة التي تخنق روسيا وتعرقل تحركها في المسارات الدولية المختلفة التي كانت مفتوحة امامها قبل اثارتها لهذه الحرب قبل عام ونصف.. ومع ذلك، فانه لا احد يجرؤ في روسيا علي لوم رئيسها او انتقاده او تحميله بالمسئولية عن كل ما يجري ، او عن خسائر روسيا الفادحة والمتزايدة في حرب استنزاف عنيفة ومكلفة كهذه الحرب ، وذلك باجماع كافة مراكز الدراسات الدولية والاستراتيجية الكبري المعروفة في العالم من لندن الي ستوكهولم واوسلو وغيرها من المراكز الدولية الموثوق فيها والتي تتابع مجريات هذه الحرب عن كثب، وقد اتيح لي الاطلاع علي بعض التقارير الصادرة عن العديد منها خاصا بخسائر روسيا في هذه الحرب، وهي الخسائر التي تحرص القيادة الروسية علي اخفائها وانكارها وتجريم نشر وتداول اي معلومات عنها في وسائل الاعلام الروسية حتي لا تثير ثائرة الراي العام الروسي ضد حكومته وقيادته.. وتخلق قوي معارضة في الداخل لاستمرار الحرب الاوكرانية.. وهي تقارير متاحة لمن يريد ان يعرف حقيقة ما يجري في ساحة هذه الحرب الدامية بعيدا عن التقارير الرسمية للحكومات علي الجانبين الروسي والاوكراني….واذا كنت لا اشير الي خسائر اوكرانيا، فهي بطبيعة الحال هائلة ورهيبة. وفي اعتقادي أن الرئيس الروسي بوتين في كل ما يتصرف به في هذه الحرب وفي غيرها وفي رؤيته الذاتية للواقع الدولي بكل معطياته ، وفي اختياره لنمط سياساته الدولية وفي ترتيبه لاهدافها واولوياتها وفق رؤيته وانسجاما مع توجهاته وتحيزاته ، تلازمه عقدة الرئيس السوفيتي الراحل ميخائيل جورباتشوف ، الذي يحمله بوتين بالمسئولية عن ضياع الاتحاد السوفيتي عندما سمح بتفكيكه وبانفصال جمهورياته عنه.وليفقده بذلك مكانته في النظام الدولي كاحد القطبين الدوليين الكبار فيه ، . وانه اذا كان جورباتشوف هو من دمر الاتحاد السوفيتي بتسرعه وتنازلاته واستسلامه للغرب بهذه الصورة المذهلة ، فان الاقدار التاريخية هي التي ارسلته ليعيد تجميع ما ضاع واسترداده تدريجيا بالقوة ، حتي تعود روسيا من جديد قطبا دوليا كبيرا وفاعلا ومؤثرا في نظام دولي متعدد الاقطاب وتتعامل فيه روسيا من موقع الندية والتكافؤ مع القطب الامريكي .. هذا هو الوهم الكبير الذي يعيشه بوتين مع نفسه كصانع تاريخ في مواجهة تحديات واخطار تجعل تحقيق هذه الاحلام امرا مستحيلا، ومع الدكتاتورية الفردية المطلقة وغياب دور مؤسسات الحكم ، ومع هذه النوعية المحيطة به من كبار المسئولين والمستشارين ممن لا دور ولا راي لهم ،، فلنا ان نتوقع كل ذلك واكثر منه…

 

دكتور محمد علي الطوبجي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى