آراء حرة

التَّرَف الزائد والفقر المُذِل.. نحن وأبناؤنا

 د. أماني فؤاد تكتب..

بمناسبة أعياد الأُم والأُسْرة هذا العام، وددتُ أن أشارِكَ حضراتكم مناقشة بعض ‏الملاحظات والظواهر، التي أتصوَّر تكرارها في المجتمع بطبقاته المختلفة، ظواهر ‏أصبحت شائعة بين الشباب المعاصِر، في أسلوب تعامُلهم مع الوالِدَين.‏

منذ أيام قرأتُ بَوْحَ فنانة تحكي عن تطاوُل ابنها عليها، ودَفْعها لتَقَع أثناء ‏شِجارهما، كما حَكَت عن توجيهه بعض الشتائم لها أثناء المُشَادَّة الكلامية، ثم ‏اعتذاره ونَدَمِه، هذا المشهد رأيته يتكرر في بعض مسلسلات الدراما، وأيضًا في ‏كثيرٍ من البيوت المصرية، في طبقات مختلفة.‏

ولعلنا نتساءل ما الأسباب التي أوجدت جرْأَةً وتطاوُلًا من الأبناء في لغة الحوار ‏مع الأُم والأب، وكيف يستسهلون الخطأ بالسبَاب أو التطاوُل على الوالدَين ‏بالأيدي؟ ‏

لا أستطيب العودة للماضي في كل ظاهرة، ومقارنة الحاضر بظروف الأجيال ‏السابقة، والظروف الكلية لمجتمعاتها، لكنني أتذكَّر أن مجرَّد التلفُّظ بمفردة غير ‏لائقة أمام آبائنا، كانت كارثة، حتى لو أن هذه الكلمة غير موجَّهة لهما، كنا ‏نخشى الخطأ، وننتقي مفرداتِنا، ماذا يُقال أمامهما، وما الذي لا يمكن أن يُقال ‏من الأساس، نحرص على الجلسة المحترمة اللائقة في وجودهما، صوت ‏الضحكة، ولُغة الخطاب مع أصدقائنا، كنا نحترمهما ونخاف غضبَهما، هذا مع ‏ملاحظة أن الآباءَ كانوا أكثرَ قسوة، وانتقادًا لتصرفاتنا، وأكثر صرامة في إنزال ‏الغضب والعقاب، في بعض الأوقات؛ فلم تكن نظريات التربية الحديثة قد ‏انتشرت، كما حَدَثَ في العقود الأخيرة.‏

لعلَّ الشباب يعي أن النضج والاستقلال لا يتحقق بالتطاول على الآباء، أو ‏الاستخفاف برأيهم وتهميشه، أو السخرية من منظورهم للحياة والقضايا أحيانًا.‏

فكثير من أولادنا انتقلت لهم بعض معاني الحرية والصِّدق مع النفْس، ومع ‏الآخرين مغلوطة؛ حيث نلحظ مَيْلَهم لأسلوب الصَّدَمات في الحوار، والمواجهات ‏الحادة أثناء التعاملات، واستسهال استخدام المفردات المبتذَلة، بل والإعجاب بتلك ‏المفردات أحيانًا.‏

ورغم الافتقار للخبرات الحياتية؛ يظن الكثير منهم إنهم وحدهم العارفون بشئون ‏الحياة والناس، كما إنهم لا يُقدِّرون كيف تؤثِّر طريقة وقسوة الإدلاء برأيهم في ‏حياة المختلِفين معهم في المنظور، ولا يضعون في حساباتهم أن للأب والأُم ‏خصوصيةً في طريقة التعامل، حتى وقت الاختلاف معهما؛ حيث يتعيَّن توافُر ‏قدْر من الاحترام والتقدير الواجب، فالوالدان – بما بذَلَاه من جهْد وعطاء في حياة ‏أبنائهم – يستحقَّان خصوصية، تشفعُ لأيَّ خطأ أو ضِيق يتسبَّبان فيه، قد ينتابُ ‏الأبناء، حين يعترض الآباء على بعض تصرفاتهم.‏

فحين تصرِّح الأُم أو الأب بانتقادِ أيِّ فِعلٍ أو مظْهَر أو أسلوب للأبناء؛ فهُما لا ‏يضعان نفْسَيهما في موضِع الآخَر/ الضِّد؛ بل في مساحتك ذاتها، حيث يشعران ‏بأنك امتدادهما، وهما ضمانُك/ احتواؤك. ‏

قد نختلف مع أبنائنا، قد نقسو في انتقادهم، ونكرِّر الاعتراض على بعض ‏السلوك؛ رغبة في أن يلتفتوا إلى أخطائهم، لكن هل يدرك الشباب أن هذَين ‏الشخصَين – “الأُم والأب” – أكثرُ البشر قاطبةً في تفضيل أولادهم عليهم في كل ‏شيء، وفي إرادة الخير لهم.‏

هل يدرك الأولاد – بنات وأبناء – أن نصائح الأُم والأب ليست انتقادًا لهم، أو ‏تدخُّلًا في أمورهم، ولا رغبة في التحكُّم فيهم؛ بل وضْع خِبراتهما مصفَّاة أمامهم؛ ‏تجنيبًا لهم للكثير من الأخطاء التي مرَّت بحياتهما!؟

المدهِش – في سلوك الكثير من الأبناء اليوم – قدْرٌ من العناد، الذي يدفعهم ‏لِصَمِّ آذانهم تمامًا عمَّا يقوله الآباء، بل الاعتراض التام عليهما، ثم ترديد مقولات ‏بعض المختَصين في عِلم النفْس، الذين أتخموا العقول بمقولات، أراها تتضمن ‏مبالغاتٍ كبيرةً، جميعها تحضُّ على الأنانية، وعدم اكتراث الفرد إلا بذاته فقط، ‏وإلقاء كل المشكلات على الغير، بوصْفِهم بالنرجسية والسادية واستخدام الآخَرين، ‏ودون مواجهة الفرد بأخطائه، أو محدودية رؤيته للأمور. لا أعرف لماذا كلَّما ‏قرأت بعض صفحات متحدِّثي عِلم النفس هؤلاء؛ شعرتُ بأنهم في أبراج منعزلة ‏عن المجتمع، بعيدون عن تشابُك العلاقات بين الفرد وبيئته المحيطة، نحن لا ‏نعيش في جُزُر منعزلة، كما أن كثيرًا مما يرددونه وينشرونه، يُشعِرك بأنهم تقليعة ‏هدفُها “السبوبة”؛ يتكسَّبون ويستغِلُّون حَيرة الشباب، دون تمكُّنِهم من أن يكونوا ‏إضافة حقيقية لتعديل سلوك جيل.‏

لعل أبناءَنا يُدرِكون إننا بقدْر ما نشجِّع على الفردية، وإغناء كافة مقومات الفرد، ‏وتنميتها والاستثمار فيها، حيث أنها الأساس في تطوير الإنسان والمجتمعات؛ ‏غيرَ أن الفردية لا يمكن أن تُثْمر إلا إذا كانت في حاضنتها الصحيحة، وبيئتها ‏الأُسَرية المجتمعية، التي تكفُل لها الدعم والرعاية، كما أن الأُسرةَ هي الميناءُ ‏الذي يوفِّر الاستقرارَ والأمن للإنسان؛ ليُبدِع ويصارِع في أماكنَ أُخرى، كما يتعيَّن ‏تبيان العلاقات المتداخِلة بقوة بين الفرد والمجموع، أخذًا وعطاءً. ‏

كما أن شيوع لُغة العنف، وأساليب التناحُر والصِّدَام من خلال ألعاب الفيديو جيم ‏والبلاي استيشن، أو أفلام المعارك والعصابات والجرائم، وأيضًا المَشاهِد الإخبارية ‏اليومية للحروب، واستسهال مَشاهِد الدماء والقتل والدمار، كل هذا يخلُق مناخًا ‏مشوَّهًا، يستبيح العنفَ، ويستسهل الصراعاتِ، ولا يجِدُ فيها غضاضة، وأتصوَّر ‏أن قضاء أوقات كبيرة، حيث تنخرط الأجيال الأحدَث في هذا المناخ العنيف؛ ‏يشوِّش أذهانهم، ويستبيح العنف في آفاقهم الذهنية.‏

وبالرغم من انتشار مظاهر التديُّن في مجتمعاتنا؛ فإن الثقافة الدينية لم تستطع أن ‏تركِّز على تثبيت القِيَم الجوهرية في حياة أولادنا، وأوَّلها البِرُّ بالوالدَين وإكرامهما ‏والحَدَب عليهما، والالتزام بالآداب الخاصة بهما، والعطاء لهما، وليس مجرد الأخذ ‏فقط، كما لم ترسِّخ الخطاباتُ الدينية قيمةَ العمل والاعتماد على الذات، وهي من ‏أهَم القِيَم الأساسية في حياة الإنسان.‏

حيث يندهش الكثير من الآباء عندما يلاحظون استباحة الأبناء لكل ما يمتلك ‏الوالدَان من الإمكانات كافة: الوقت، والاهتمام، والأموال، ويشعرون أن كل ما ‏يمتلك الآباءُ من حقهم، في حين يبخلون على آبائهم بكل شيء، حتى الوقت ‏ذاته، والاستماع لهم، أو مشاركتهم مناسباتهم وأنشطتهم، فلماذا يَشعرون بملكيتهم ‏للآباء، ويَضِيقون للغايةِ بأيِّ التزام يطلبه منهم الوالدَان، لماذا تضخَّمت الأنانية في ‏ذواتهم، وترسَّخت عادة الأخذ فقط؟

هل أخطأ الآباء عندما بذَلوا فوق طاقتهم، وأرهقوا ذواتهم؛ لتوفير أفضل تعليم ‏لأبنائهم في المدارس الأجنبية، والحِرص على نَيْلِهم للشهادات الدولية، وتوفير كل ‏وسائل الرفاهية، والاستجابة، ليس لمطالب الأبناء فقط، بل أحلامهم. هل أخطأنا ‏حين علَّمناهم في بيئة ومناهج وثقافة تختلف نسبيًّا عن ثقافة وتقاليد مجتمعاتنا ‏العربية، أم أن الخطأ ليس في الثقافة الأجنبية بقَدْر عدم استيعابهم لعُمق وآداب ‏الحرية وطرُق وأساليب التعبير عن النفْس، والقُدرة على المواجهة، أعطينا قشورَ ‏الحضارة الغربية اهتمامَنا، دون توعيتهم بعُمق معاني الفردية والاستقلال في هذه ‏الحضارة!؟‏

التَّرَف وبذْل كل ما يستطيع الآباء توفيره للأبناء، مع وضْعهم في بيئة ثقافية ‏متحررة أكثر من تقاليد مجتمعاتهم، وتحصيلهم لقشور ومظاهر تلك الثقافات؛ ‏تجعل الأبناء حائرين، مُذَبْذَبِي السلوك.‏

كما أن اتساع تطلُّعات الأجيال الجديدة وتعدُّدها وتشيُّؤها وسرعة الاستهلاك، مع ‏استعجال حدوثها من أجْل التمتُّع بكل شيء في الحياة، ويقينهم إنهم بمفردهم لا ‏يستطيعون تحقيق هذه الطموحات؛ نظرًا للظروف الاقتصادية العالمية، كل هذا ‏يجعلهم أكثر طمعًا في استنزاف كل موارد الوالدَين، في ظِلِّ العيش في مجتمعات ‏استهلاكية بامتياز.‏

كما يظَل الفقر، والعيش تحت ظَلِّ قهْر الحاجات الرئيسية، مع عدم الحصول ‏على قدْر مناسب من التعليم والثقافة، لتهذيب سلوك الأفراد، وخلْق منظومة قِيَمية ‏رفيعة، يظَلُّ كلُّ هذا سببًا مباشرًا للعنف؛ حيث يجعل الفقر أبناء الطبقات ‏الوسطى الدنيا، والطبقات الدنيا ساخطِين على الوالدَين والحياة، وهو ما يدفعهم ‏لاحتمالات التطاوُل على الوالدَين، وتكرار تلك المواجهات. ويتناسَون دورهم في ‏الخروج بذواتهم من دوائر جحيم العَوَز هذا.‏

الترف الزائد والفقر المدقِع كلاهما يُفسِدان العلاقة بين الأبناء والآباء، لكن تظَل ‏حقيقة أن للآباء – مهما اختلفت وتبايَنَت الظروف الاقتصادية – حقَّ الاحترام ‏والمحبة، وأن يظَلَّ الوِدُّ والاستيعاب والحدَب عليهما من أولادهما حقيقة وقيمة ‏يتعيَّن أن تشتغل عليها خطاباتُ المجتمع كافة، بكل مؤسساته التعليمية ‏والإعلامية والدينية ومنظومة قيم الأسر ذاتها، أي يتم توجيه الثقافة العامة في ‏المجتمع للوصول لما ننشده من قيم المحبة والاحترام بين الطرفين. ‏

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى