آراء حرةسمير المصريسمير فرج

لواء دكتور سمير فرج يكتب.. ذكريات رمضانية

 

يهل علينا شهر رمضان المبارك، كل عام، حاملاً معه العديد من الذكريات، المرتبطة بالطفولة والشباب، وتلك المرتبطة بطقوس العائلات المصرية، والتي أصبحت جزءاً من تراث الشعب المصري، بما يجعل الكثير من الأشقاء العرب يتهافتون على قضاء، ولو بضعة أيام، من ذلك الشهر الفضيل، في مصر لإضفاء مذاق خاص على أيامه المباركة.

ورغم كل تلك التفاصيل السعيدة، إلا أنني يغلبني، في بعض الوقت، استرجاع ذكريات أيام، وفترات، صعبة عشتها، حرمتني من الاستمتاع بطقوسنا الرمضانية التي نعيشها في مصر. ففي كل عام، أجدني أتذكرني وأنا ابن السابعة عشر من عمري، أتخرج من الكلية الحربية، ليتم إرسالي، فوراً، مع وحدتي المقاتلة، إلى اليمن، للاشتراك في حربها، التي طالت لسنوات.

وأتذكر، بعد يومين من وصولنا إلى صنعاء، أن تم تكليفنا بمهمة فتح أحد الطرق، في منطقة بيت السيد، والتي ما أن وصلنا إليها، حتى أمر قائد كتيبتنا، بتخصيص أحد السرايا، بقيادة النقيب موريس عزيز غالي، لاعتلاء أحد الجبال الشاهقة، أما أنا فقد تم تكليفي، مع فصيلتي المدعمة بحوالي 50 جندي، بالتمركز في منطقة التباب السوداء، التي لا تستلزم مساحتها سوى لقوة فصيلة مشاة. ورغم كوني أحدث قائد فصيلة في الكتيبة، إذ لم يكن قد مر على تخرجي أكثر من ثلاثة أشهر، ورغم كوني الأصغر سناً، إلا أن قائد الكتيبة قرر أن أنفذ تلك المهمة بجنودي.

ولما كنا في شهر رمضان، حينها، فقد تناولنا وجبة إفطار سريعة، لأندفع مع قوتي، بعد آخر ضوء، لاحتلال التباب السوداء، على قمة الجبال الشاهقة، متبعاً أساليب القتال العسكرية؛ فبدأنا عملية الصعود، وعلى الجانب الآخر كان النقيب موريس عزيز غالي يندفع بقوته، وقوامها نحو 150 مقاتل، من سرية المشاة، لاحتلال هدفه. ومع قرب بزوغ فجر اليوم التالي، كنت قد وصلت، مع جنودي، إلى القمة، وفجأة قامت العناصر اليمنية بالهجوم على قوتي، في معركة استمرت ثلاث ساعات، تمكنا خلالها من صد الهجوم اليمني، بعدما أفقدناهم اثنا عشر فرد، واستشهد من قوتي رقيب الفصيلة.

وبعد انتهاء المعركة، بدأت في ترتيب الأوضاع الدفاعية لقوتي على الأرض، وكان الجو بالغ البرودة، فوق قمم تلك الجبال الشاهقة، وكانت شدة الرياح تزيد من الإحساس ببرودته، فكنا نتطلع، بسعادة بالغة، لسطوع الشمس، للاستمتاع بقدر من التدفئة، ونسترشد بغروبها، وحلول الظلام، لتناول الإفطار. أما وجبة السحور، فكانت، عادة ما تفوتنا، نتيجة التأهب والاستعداد الدائم لصد أي هجوم محتمل.

ومع حلول الظلام، فوجئنا بأن الفصائل اليمنية المتمردة قد قامت بقطع الطريق علينا، فأصبحت قوات فصيلتي، ووحدة النقيب موريس عزيز غالي، محاصرين، وليس معنا إلا وجبة الإفطار، التي نسميها “تعيين طوارئ”، وهي عبارة عن قوالب من الفولية، الغنية بسعراتها الحرارية، لاكتساب الطاقة، بالإضافة إلى زمزمية المياه، التي بات من الضروري الاقتصاد في استخدامها، في ظل عدم اليقين بطول أمد الحصار. وحتى أجهزة اللاسلكي، كان لابد ألا تنفذ بطارياتها، وإلا انقطع الاتصال مع قيادتي.

لازالت أذكر تفاصيل إحساسي بتلك الليلة، وكأنها بالأمس القريب، فقد كانت من أقسى الليالي التي مررت بها في حياتي، فرغم حداثة سني، وعدم تراكم خبراتي، بعد، وجدت نفسي مسئولاً عن كل جنودي، أواجه معهم حصاراً، فوق تلك الجبال الشاهقة، في ظل محدودية الموارد. وفي الصباح، علمت من قيادتي بأنه من غير المنتظر أن يُفك الحصار قبل يومين، عند وصول إمدادات جديدة من صنعاء. وكان لزاماً عليّ تدبير الطعام لجنودي، دونما إخلال بقواعد التأمين، فنظرت إلى الوادي، أسفل الجبل، ورأيت قرية يمنية، وبعد مراقبة دقيقة، امتدت لساعات، تأكدت أن أهلها قد هجروها نتيجة القتال، فأرسلت دورية للبحث عن الطعام. وبعد أربعة ساعات، شاهدت جنودي يخرجون من القرية، يحملون أربعة جوالات، وعدد من جراكن المياه.

وصلت الدورية، إلى موقعنا، قبيل الإفطار، في ظل ترقب باقي الجنود لما ستجود عنه تلك الجوالات، فإذا بها محملة بالزبيب، أو العنب المجفف، الذي يعد أحد أشهر محاصيل اليمن، وكانت تلك القرية تقوم على زراعته وتجفيفه، ولما هجرها أهلها، اضطروا لترك الكثير من المحصول خلفهم، نظراً لثقل وزنه. فحمل منه جنودي ما طاقوا على حمله، وعادوا إلى قمة الجبل، لنمضي ثلاثة أيام، طوال مدة الحصار، معتمدين، جميعاً، في إفطارنا وسحورنا على الزبيب، الذي نصحني أحد جنودي، بنقعه في الماء لمدة ثلاث ساعات، قبل تناوله، فوجدنا في ذلك وجبة شهية، لازلت أحرص على تناولها حتى يومنا هذا. وهكذا أنقذنا الزبيب في التغلب على الحصار، حتى تم فتح الطريق ووصول الإمدادات.

أمضيت في اليمن ثلاث سنوات، انتقلت خلالهم من معركة إلى أخرى، وفي كل عام، عندما يهل شهر رمضان، أجدني مفتقداً لمفرداته في الحياة الاجتماعية المصرية، سواء صلاة التراويح في المساجد المصرية، أو ولائم الإفطار العائلي، أو التفاف جميع أفراد الأسرة حول شاشة تلفاز واحدة، لمتابعة مسلسل درامي، أو اثنين على الأكثر، مع عدد من برامج المنوعات الخفيفة، وعلى رأسها، بالطبع، فوازير رمضان.

ورغم تغير ملامح شهر رمضان، في مصر، في يومنا هذا، إلا أن قسوة تجربة قضاؤه في حرب اليمن، تجعلك تردد، بملأ الصدر، يجعلك عمار يا مصر.

 

Email: [email protected]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى