آراء حرة

د. أماني فؤاد تكتب....الجمعة بالمصري اليوم

د. أماني فؤاد تكتب.   الجمعة بالمصري اليوم ..

الحضور الوجودي المعرفي ‏
في مجموعة “الكيميرا”‏
يستكمل د. حسام بدراوي مشروعه الفكري التنويريَّ، الذي بدأه منذ زمن، بمغامرة ‏إبداعية جديدة، مجموعة نصوص سردية حوارية، تُضاف إلى إسهاماته في ‏الطِّب، والسياسة، واهتمامه بمنظومة التعليم في مصر، وممارسته للكتابة ‏الصحفية. ‏
يستهدف الكاتب – بتلك المجموعة – الاقترابَ من عقْل وقلْب القارئ؛ بتوظيفه ‏لعِشق البشر للسَّرد والحكايات، لتصِلَ رسائلُه – على مستويات متعدِّدة – لشرائحَ ‏عريضة من المتلقِّين.‏
في مجموعته القصصية المعنونة بــ “كيميرا” يمكن للقارئ أن يلتقط خلاصات ‏أفكار، ظَلَّت مجالَ تأمُّلِ المفكرين والعلماء والمثقفين، ما نُطلق عليه بعض قضايا ‏الإنسان الوجودية على الأرض. يتَمَثَّل الكاتب، في القصص، ما انتهى إليه في ‏رحلة بحْثه الدائم، وتأمُّلاته في الدِّين والسياسة والتعليم، في منظومة القِيَم البشرية؛ ‏ليُجسِّد أفكارًا من قَبِيل: طبيعة الطاقة الكونية، ومفهوم شديد الاتساع للربوبية، كما ‏وَرَدَ في نَصِّه “انتظار المعجزة”، العلاقة الخاصة بين الإنسان وخالِقه، وأشكال ‏التواصل مع الله كما في قِصَّتَيه “لحظة رهبة” و”اتساع الزمان”، رؤيته لمنظومة ‏القِيَم، وهل الأخلاق مرتبطة بالتديُّن والصلاة أم أنها منظومة طبيعية في الإنسان، ‏وتُكْتَسب وتربَّى أيضًا، وأهمية الصدق مع النَّفْس ومع الآخَرين؟
في نَصَّي: “الكيميرا”، و”النوم سلطان” يُبرِز الكاتب جوهرَ العِلم، وكيف أنه لا ‏يتعارَض مع فهْم تنويري متجدِّد للدِّين، وعي يلتقط جوهره، حيث المقاصد العليا ‏للشريعة الإنسانية، كما يُبرز ويفسِّر الكاتب عودة الإنسان – مهْما اتَّسعت معارِفُه ‏وثقافاته – لوَعْيه العميق، المرتبط بالوعي الجمعي الموروث، والكامن في البشر، ‏في لحظات الخوف والقلق، بالرغم من إدراك الفرد أن الوعي الجمعي يخضع ‏للأساطير، ولا يتوسَّل بالعِلم في تفسير الظواهر، كما أنه يخالِف أحيانًا تطورات ‏الأفكار، التي تُنتجها الحضارات البشرية.‏
كما يعالِج الكاتب نظراتٍ تاريخيةً في الديمقراطية ومساراتها، وكيف حصلت عليها ‏الشرائح المختلفة من البشر، وذلك في قصص: “أحمد المنصوري .. وسقراط”، ‏و”شلة المعاش .. وكلام في الهوا”، وتظَل عناية د. بدراوي بالتعليم قيمة مهيمِنة ‏على اهتماماته، حيث يؤكِّد – في قِصَّتَيه “زيزو” و”الهدهد والإنترنت” – على ‏ضرورة اللحاق بالمفاهيم الحداثية، ومتطلبات المجتمع المعاصِر وتحوُّلاته. وفي ‏رؤى تتعلق بالمرأة وحقوقها، يجسِّد في نَصَّي: “بي .. ودرويش” كيف تستغل ‏الثقافة الذكوريةُ المرأةَ، ولا تُراعي حقوقَها أيًّا كانت جنسيتها. ‏
في كل قصة يختار الكاتب محورًا ثقافيًّا ومعرفيًّا، يحرص على طرْحه في السَّرد، ‏مثل قصته “اندماج الثقافات”، التي تُعد من أكثر نصوص المجموعة امتثالًا لروح ‏القصة القصيرة، فيتحدَّث فيها عن عناية الثقافة الفرنسية بالجمال في كل أشكال ‏السلوك البشري، وطبيعة ما تنتجه الثقافة، يقول: “كيف استطاعت ثورة الشعب ‏من الفقراء، وكل فلاسفته، الذين أسَّسوا لمبادئ الحرية، وحق الفرد أمام سُلطة ‏الأمراء في القصور، والملوك على عروشها، في حرفية فرنسية مدهشة، أن تدمِجَ ‏تاريخَ هؤلاء الملوك دمجًا في ثقافة شعبها، في مزيج عجيب، نتَج عنه هذا الولع ‏بالثقافة والعِلم والجمال”15.‏
تُعيد مجموعة د. بدراوي – بطبيعتها السردية المعرفية – طرْح أسئلة فنية ونقدية ‏تشغل الباحثين والكُتاب، مثل: هل يمكن أن تنهض الكتابة الفنية للقصة القصيرة ‏أو غيرها من الأنواع الأدبية على التحصيل والعِلم، مثل الإلمام بتاريخ القصة ‏القصيرة وأشكال بنْيتها، وتقنيات كتابتها، والاطلاع أيضًا على منجَز أهم كُتابها ‏سواء لدى العرب أو الغرب؟
يقول د. بدراوي في المقدمة: “ولكني تسلَّحت بنفْس المنطق، الذي أطلبه من ‏تلاميذي، وهو أنه كلَّما زادت المعرفة؛ زادت القدرة على التلخيص.”‏
وأحسب أن هذا المنطق يختلف عن منطق الكتابة الإبداعية؛ فالأمر هنا لا ‏يخضع للمعرفة فقط – رغم أهميتها – بل يرتبط بالموهبة والجزء الفطري، بالتقاط ‏الإنساني في الحياة، وشِعرية التناوُل وكثافته، بالقُدرة على ابتكار بِنًى تشكيلية ‏متنوِّعة، واقعية أو خيالية، بتشكيل الأساليب المجازية البديعة، بالتوليف بين ‏مستويات فنية، بطرُق خاصة، لِفَكِّ شِفْرة الحياة بطريقة إنسانية غير مباشرة.‏
للفن والكتابة مقومات أخرى، مقومات تبدأ من أن الفن ذاته قفَز على القواعد، ‏وعلى المتداوَل؛ من خلال التقاط الإنساني للغاية، وخلْق الدهشة، ليس معرفة ‏فقط؛ بل معرفة منصهرة في المشاعر والأحداث، وممزوجة بهما، الفن يقدِّم لك ‏المتعة التي تخاطِب منطقة خاصة في الإنسان؛ منطقة بينية، بين العقل والقلب.‏
وغالبًا ما تنهض بنْية القصة القصيرة على اللقطات الإنسانية شديدة التوتر، ‏اللحظات غير الاعتيادية، وما تتضمَّنه من مفارقات، ويتسرَّب الحكي فيها من ‏الكاتب إلى مَسَام القارئ، وروحه دون عناء، دون الشعور بخطاب إصلاحي ‏تعليمي، يطرح نظرياته في الحياة، ويحاوِر تأويلاته لبعض القضايا، التي تنشغل ‏بها المجتمعات.‏
وتتنوَّع التقنيات الفنية، التي يوظِّفها د. بدراوي في كتابة النَّص القصصي، حيث ‏تقوم قِصَّتُه “اندماج الثقافات” على بنْية الوهم، طيلة السرد؛ حيث يوهِم الكاتبُ ‏متلَقيه بأنه يحكي عن امرأة، ويصِف مشهَد غواية مستخدِمًا الحوَاس البشرية كلِّها، ‏والألوان والمُلابَسات المحيطة بمشهد لقاء وتعارُف، لتنتهي القصة بمفارقة أن ‏الغواية لم تكن إلا من قطعة جاتوه، ولها كل هذه الممانعة، ثم الاستسلام، أنْسَن ‏الكاتبُ قطعةَ الجاتوه، وأسند إليها صفاتِ البشر، من خلال وصْف المشهَد، ‏والحوار مع ذاته والسفير الفرنسي.‏
يقول: “على الطاولة، وحولها الكثير، لكنها هي التي كانت تنظر إليه هذه النظرة، ‏برغم أنها أتَتْ متأخرة.. التفت بعيدًا عنها، كي لا تتلاقى عيناه بها.. حاول بكل ‏الطرُق – احترامًا لنفسه – ألَّا ينظر إليها، وفتَح أحاديثَ جانبيةً حول التحكُّم في ‏الذات… التفت السفير الفرنسي.. وبدا متردِّدًا في أن يقول له: لماذا تتجنَّبها بهذا ‏الشكل، لا توجد مشكلة في الثقافة الفرنسية في انسجامكما منذ النظرة الأولى” 14 ‏
كما يُنطِق الكاتبُ أيضًا الهدهدَ في نَصِّ “الهدهد والانترنت”؛ ليرصُد تحولاتِ ‏الطبيعة من حولنا، وحول الكائنات، ويبيِّن آثار التكنولوجيا على البيئة، وضوضاء ‏الإنترنت، الذي بات شبَكة شاسعة، تغطِّي الأرض والسماء. ‏
‏ وتنهض بنْية قِصَّته “على مقهى الربيع العربي” على الرموز الساخرة، حيث لا ‏يقدِّم المقهى لزبائنه إلا مشروب الطغاة، ومشروب الدعاة، رغم ما يَنتُج عنهما من ‏أمراض العبودية والذُّل والتخلُّف، هذا المقهى لا يقدِّم مشروب المساواة ولا العدالة، ‏
ولكلِّ بلد عربي مشروبٌ خاص بحالتها، فمشروب الغزاة في سوريا، والفوضى ‏والخيانة في مصر، والإفلاس في لبنان، والتقسيم في السودان وليبيا. ‏
الشرب على هذا المقهى بالإكراه، والأوضاع معكوسة، يقول: “ــ يا ابني أنا الزبون ‏وأنت الخادم لي، ــ هههه .. عندنا الزبون خدَّام الخادم.. أنت ما فهِمْتِش ‏لِسَّه؟”19 في هذه القصة يُعرِّض الكاتب ببعض المفاهيم السياسية المغلوطة، في ‏أوطاننا. ‏
كما يمكن أن نَصِفَ نَصَّ “انتظار المعجزة” بالقصة الفلسفية العلمية ‏الأنثروبولجية، فدكتور علاء علواني عِلمي التفكير، لا يؤمِن بالمعجزات، حيث ‏المعجزة الحقيقية هي خلْق الكون والإنسان وكل الكائنات بنظام، ولن يدلِّل الله ‏على نفسه بخَرْق نظامه، ويفسِّر د. علاء تأثُّرنا بمواقفَ عاطفية بقوله: “حقيقة ‏الأمر أن الفكر الجمعي للبشر، بتراكُم آلاف السنين، يؤثِّر في العقل الباطن، ‏ويجعل فكرة تدخُّل الله في جزيئات الحياة موجودة، رغم استبعادها من العقل ‏الظاهر.”24، 25‏
في أطول نصوص المجموعة؛ “الكيميرا”، تنساب سردية اجتماعية عِلمية، لترصُد ‏ظاهرة نادرة الحدوث، حيث تكتشف ليلى – ابنة المهندس المتفتِّح – أنها حامل ‏في شهرين، رغم تغيُّب زوجها لأكثر من ثلاثة شهور، فتبدأ مناقشات العائلة حول ‏ضرورة إجهاض الحمْل، رغم ثِقتهم في أخلاق ليلى، وحُسن تصرُّفها، لكنَّ خوفَهم ‏من الزوج، وتقوُّلات المجتمع؛ يجعلهم يقرِّرون ضرورة إجهاض الجنين، دون عِلم ‏زوج ليلى، ترفُض ليلي، وتختار أن تصارِح زوجها، لكنها تُجهض دون تدخُّل ‏خارجي، لتتكشَّف – مع الوقت – ظاهرة نادرة الحدوث، اسمها “الكيميرا”، وهي ‏أن تحمَل المرأة من نفْسها وخلاياها، في هذه القصة يطرح الكاتب ضغْط سُلطة ‏المجتمع، على تقرير حياة الشخوص، وبعض المقولات الموروثة عن علماء دِين، ‏يتعيَّن أن تُراجَع مع التطورات العِلمية المعاصِرة، كما يؤكِّد الكاتب على رُقِي ‏الأخلاق الفردية، بغَض النظر عن الصلاة، أو الخوف من العقاب.‏
ينفتح الفضاء السردي بالنسبة لتِقْنيتَي الزمان والمكان في معظم قصص ‏المجموعة؛ حيث تعالج خلاصة أفكار فلسفية دينية سياسية اجتماعية تعليمية، لذا ‏لا يتعين تحديديات زمنية أو مكانية، لكننا بالطبع نشعر بعَصْرَنَتِها، ووقوعها في ‏محيطنا الجغرافي. ‏
وقد يَرِد على ذِهن القارئ للمجموعة تحديد المسافة بين شخصيات قصص ‏مجموعة “الكيميرا” وشخصية د. بدراوي، وأحسب أن معظم شخصيات القصص ‏قد اكتست ببعض الملامح الفكرية للكاتب، ولذا قد يتبلور السؤال بطريقة أخرى: ‏ما هي المسافة التي يتعيَّن وجدوها بين شخصية الكاتب وشخوص نصوصه؟ ألا ‏يظَل تعدُّد شخوص العمل مجرَّد تنويعات على تيمة واحدة، وليس شخصيات ‏متفردة بِلَزْمَاتها ورؤاها المختلِفة في كل نَصٍّ قصصي؟
تتشكل معظم قصص مجموعة الكيميرا تعليمية، قصص معرفية، اتساقًا مع ما ‏نُطلق عليه رواية معرفية أو معلوماتية، ولذا تميل اللغة للتقريرية؛ حيث الهدف ‏توصيل محتوى فكري واضِح المَعالِم.‏

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى