آراء حرة

دكتور أماني فؤاد تكتب..لنكن أنفسنا

 

مع انتشار ظاهرة تبادل الأدعية الموروثة المأثورة عن السلف ومقولاتهم، أو أدعية المعاصرين، التي يتناقلها ويمررها الجميع بإصرار عبر وسائط التواصل الاجتماعي كافة، خطرت لى مجموعة من الملاحظات التي أود مشاركة القارئ بها: 

أعندما يريد الإنسان أن يدعو الله ويناجيه هل عليه أن يستعين بنماذج محفوظة تُفرض بإلحاح تداولها وتكرارها، أنشأها أصحابها السابقون لحاجاتهم وبلغتهم، أم أن ينطلق الدعاء من داخل الفرد، من فضاء ذهنه واحتياجه، بلغته هو، مناجاته الخاصة التي حبذا لو أنها غير متحفية أو معلبة, حيث الكثير منها نصوص تاريخية مكبلة بالمحسنات البلاغية سجعا وجناسا وطباقا وغيرها، والكثير من مفرداتها متروك، لم يعد متداولا؟ 

قد يقول قائل أننا جميعا لا نمتلك فصاحة اللغة التي يجب أن ندعو بها الله، ومن المستحب بلا شك أن تكون اللغة التي نخاطب بها الرب فصيحة وجزلة، لكن الأهم فيما أرى أن تكون حقيقية نابعة من القلب، صادقة الالتصاق بمن ينطق بها أو تدور بذهنه، تعبر عن الفرادة الإنسانية مهما تشابهت مشاكل البشر وتشابكت، لغة تأخذ على عاتقها محمولها عبر الذهن والوعي لا الغياب ومجرد الترديد، تعبر عن خصوصية الفرد، حوار تلقائي يطوي الطرق الطويلة التي نتخيلها بين العبد وربه. 

تداول الأدعية الجاهزة وتكرارها يخلق مجاميع من البشر، تستخدم كلمات واحدة وصياغات متشابهة، ظاهرة ترسخ للنقل والتكرار وليس لتحفيز قدرة التعبير في الذات، تؤسس لثقافة الكلمة وبلاغتها الظاهرية بالأساس لا جوهرها وصدقها، قد نتشابه لكننا بلا شك لا نستنسخ. 

كما احسب أن هذا التكرار يستند بشكل أو آخر على موروث من التفكير الأسطوري و الطاقة السحرية التي تصورها الأولون بالكلمات، فجزء كبير من معرفة العالم تقوم على الرموز، وفي تلك الأدعية ظلال لم تزل باقية من الاعتقاد بالسحر الكامن بالكلمات في ثقافة ما قبل الأديان، ثم حافظت الرسالات على جزء كبير منه .

كما أن شيوع التنميط والتكرار يقتل الأصالة، حيث الأصالة قدرة الإنسان أن يكون ذاته ويعبر عنها بمعجمه الخاص لا أن ينقل نموذج ماضيه وأسلافه، وأتساءل لماذا لا يرتفع سقف كل إنسان منا فيحفز قدراته، ويعبر عن نفسه؛ ليبدع حواره مع الذات الإلهيه، ينشط فضاءات ذهنه ويخلق لغته، فخالقنا هو الأعلم بقلوبنا ومقاصدنا.

 ومن الخطير أيضا أن بعض صيغ الدعوات المحفوظة والمتناقلة ترسخ لحالة من السيولة والتواكل أو ميوعة المبادرة، لا الأخذ بالأسباب، فتترك الإنسان يستجدي الغيبي وتخلق بداخله درجة من الاستاتيكية بلا فعل إيجابي يتضمن السعي. هذه الدعوات من قبيل: إذا قلت كذا سبع مرات أو ثلاث استجاب الله لكذا، ونجاك من كذا، ثم ويزيدون ارسلها لتعم الفائدة .. 

لا يدعو المقال لترك الدعاء، ولا الاستهانة بما يبعثه من حالة السكينة عندما يلقي الإنسان بأحماله على الذات العليا القادرة ويناجيها، لكنني ضد التكرار والتعبير بالتبعية، هو دعوة لئلا نكتفي بالألفاظ المنمقة ذات الإيقاع الكهنوتي البكائي الذي يتصنع الضعف والهوان؛ ليدغدغ عواطف المتلقين ويغيب عقولهم عما ينقل لهم من رسائل قد تلهي عمل العقل الإنساني وتسلمه لحالة من الدروشة.  

أرى في الدعاء بعدا يتمثل في أنه كلما أراد الإنسان شيئا فإنه يسيطر على تفكيره وطاقته، ويعبر عنه طالبا إياه من الخالق، وحين يترجم هذا لسعي تأتي النتائج التي جوهرها فعل الإنسان. 

نادرا ما يتحقق الدعاء بلا عمل ومبادرة من الإنسان، وأحسب أن غيرية الدعاء واستنساخه من النصوص سابقة التجهيز نوع من تأصيل الخمول والجبرية، انتظار ما يجيئ من خارج ذواتنا في حين أن الطاقات البشرية أوسع من هذا كثيرا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى