إبداعات أدبية

جزء من رواية الدوادة للكاتب دكتور العشماوي عبدالكريم أحمد

الدوداة – رواية سوف ترجع بك الي ايام الطفوله بعيدا عن حياتنا الرقمية ذات الرأسمالية المتوحشة بمجرد قراءتها وستتنفس معها الصعداء وستستسلم لاجمل مساج ذهني في حياتك

( جزء من رواية الدوادة للكاتب دكتور العشماوي عبدالكريم احمد

كتبت في شتاء 2000

اسم ربما لا يعرفة القطاع الاكبر من شباب هذه الايام اسم ارتبطت به الاجيال القديمة وخاصة الامهات لخوفها الشديد علي اطفالها : انها المرأة الغجرية التي لا نعرف مكان معيشتها او كيف تقوم بتدبير امور حياتها ولكنها هي القادرة علي تنظيف رؤسنا مما فيه من الم فعلي او الم نتوهمه وانتشرت وسط الطبقات الفقيرة والوسطي واحيانا العليا بالقري المصرية و خاصة بصعيد مصر ، اتذكر سنوات الطفولة التي لاتريد ان تتحرك من اماكنها داخل تلافيف عقلي وخاصة الامور الريفية الجميله البسيطة .

كان وقت صباح شتوي يكاد يشوي العظام من شدته وكلنا مجمعين حول نار ننظر اليها كأنها كنز عظيم ننبهر به ونقوم بصنعه بايدينا من خلال وضع كميات من البوص والقش وبواقي الاخشاب المجمعة لذلك اليوم مرت ساعات الصباح بسقيعها المعهود بعد ان قمنا بطقوسنا الحياتية اليومية من شرب لبن جاموسي دسم المذاق مخفف بالكثير من الشاي وما ان انتهينا منه حتي وضعت الام امامنا نحن الاب والصغار (زبدية ) وهي اناء فخاري مستدير اركانة صغيرة تحول من لونة المحمر الي اللون الاسود بعد عمل تقادم زمني له (تعتيقه) وقامت الام بوضع الكثير من الفول ( الملذوذ ) المدمس الذي تم تسويته في اليوم السابق وهو يوم الخبيز حينما قامت الام بوضع (المنطال )- الاناء الفخاري الذي تتم فيه تسوية الفول – علي فتحة الفرن البلدي العلوية ليأخذ قسطا كبيرا من النار وتستطيع من خلال وجوده خارج الفرن تزويده بالماء كلما قرب علي الجفاف فتعيد له الحياه اعلي النيران التي تشويه من اسفل وما ان قامت الام بغرف الفول لتضعه داخل (الزبدية ) الموجودة علي جمرات من اخشاب تامة الاشتعال متراصة الي جوار بعضها البعض كانها لوحة فسيفساء نارية جميلة يصعب النظر فيها كثيرا من شدة توهج جمالها النيراني فما تتمالك عينيك الا ان ترمش بطريقة لا ارادية لتصنع فاصل بين الرؤيات المتتالية لتلك اللوحة التي شكلت نفسها وسط برودة صباح غير عادية متحدية للطبيعة من حولها حتي ان ذرات الصباح المحيطة بها تتباعد عنها من شدة جمالها المتوهج ربما خجلا او خوفا وكلما قل توهج هذه اللوحة الجميلة فاذا بالبرد يقترب منها ليري شئ من جمالها العاري المتوهج الذي لم يتسطع رؤيته في توهجها فاذا به يراها قد ارتدت ثوب رمادي خفيف كقميص نوم صيفي لعروس في مخدعها فيلوم نفسه كيف لم يحاول ان يراها وهي متجردة من رداءها فاذا بها تفاجأه ببداية خلع رداءها ولكنه ينزوي مرة اخري خلف خجله وخوفة من وهجها كانت لوحات جميلة نراها ولم نزل نراها بقلوبنا صنعت وشكلت منا ملامح الحياة والابداع فلم ننسي معلقتين من السمن البلدي المتجمد الموضوعين علي الفول ليسبحوا بنعومة شديدة وسط غلات الفول ويصنعوا طبقة حريرية رقية لها من الرائحة التي تنتشر مع سباحة هذا السمن بين بحار الفول في فلك (الزبدية ) الكون المغلق لهم وعلي هذا( الشوال) جوال الخيش جلس الصغار حول اباهم يضعوان فتافيت من ارغفتهم التي وضعت علي الرماد الساخن وتقلبت علي وجهيها لتاخذ سمار جمال محرق في بعض جوانبة او منتصفه علي نار رماد هادئ يتخلل لباطن الرغيف ليدفئة بين احشائة وها هو ايادي الاطفال الصغيرة المحمرة من الدفء حول ( الكانون ) تتسابق في تناول افطارها وايادي اخري تلتقط البصل الاخضر لتقطع منه ما تستطيع من راسه الابيض بعد رداءه الخارجي المتسخ ببعض الطين ورداءة الداخلي الناضر وازالة الشعر الموجود علي راسه وكانت اليد الاخري الممسكة بكسرة الخبز تمسح دموع تنهمر من عيون متورمة من كثرة النوم تحت اغطية ثقيلة مختلفة انواعها فيوقف الاطفال اكل البصل الاخضر وما يلبثوا ان يعودوا اليه كمدمن دخان اقلع عنه وعاد متناسين ما حدث لهم من ثواني قليلة كأن ذاكرتهم ذاكرة سمك ينسي الاحداث بعد لحظات قليلة او كذبابة ذاكرتها للحظات فما ان تهشها حتي ترجع سريعا لما كانت عالية ببلطجة شديدة لانها نسيت انها تم ابعادها نعم كانت لحظات جميلة وبعد خروج الاب لعملة وبعد انقضاء ساعات الصباح الاولي فاذا بباب المنزل الجانبي ناحية الحوش الملاصق للمنزل او قل المنزل بداخلة كانه جنين في بطن امه في الشهور الاخيرة حتي بدأ يزاحمها ويزاحم اعضائها فقامت الام تصرخ في ابنائها حتي يفتح احدهم الباب فهي منشغلة في تجهيز الغداء للزوج وللابناء وما ان اقترب الطفل البكري من باب الحوش الصغير المصنوع من خشب ضعيف متكأ علي الجدار الحامل له كانه يستريح من سفر طويل وقام الطفل بعمل قلق له حين فتحه الذي كان يتم بصعوبة مع البرودة الشديدة لصغر الحلق الموجود حول الباب كانهم منحشرين كل في بعضه من شدة البرد وسط العراء فالكل يستدفئ الا هم كالجنود الساهرة في الثغور المكشوفة باوامر يستحيل تغيرها فاذا بالطفل يقول مين؟ فيرد صوت نسوي غريب اللهجة انا فيتضايق الطفل حيث ان امة نبهت عليهم الا يقولوا انا بل يذكر اسمه اذا دق باب احد حتي يعرفونه فقال انتي مين؟ فقالت أنا وقام بادخالها وحين نظر اليها وجدها شابه في العقد الثالث من عمرها متشحة برداء اسود خفيف ناعم (ملاية) فعرف انها حلبية او شحاته كما يعرفون هذه الشخصيات من ملابسهم وزيهم المعروف فقال لامه ( ياد يا امه الشحاته) فردت علية اديها رغيف فلم تعر هذه السيدة لكلام الطفل الذي يستوقفها فلا دخول الا باذن امه حتي دخلت بجوار مجلسهم وجاءت الام لتخبرها ( عايزه ايه يامي) ؟ قالت الشابة انا الدوادة بت صباح الدواده اللي كانت تجيلكم زمان فسكتت الام بعض الوقت وقالت ايوه ايوه هيا لسا عايشه؟ فقالت الدواده الصغيرة عيانه ومش قادرة تمشي علي ركبها فردت الام ربنا يشفيها طيب اقوم اجيبلك شوية غلة ( قيضي) تقصد به الذرة الرفيعة فردت الشابه لا انا جيت علشان شفت دود في عيالك وانا من بره الباب وبالذات (الواد ده ) تقصد البكري اللي فتح الباب فضحكت الام لاعتقادها ان ذلك نوع من انواع السحر فقد كانت مثقفة اجتماعيا ولها الكثير من خبرة الحياه رغم صغر سنها فقامت من جلستها ووشوشت ابنها الصغير البكري ان يقلب فردة الشبشب الشمال وقالت له ( علشان نعرفوا دا سحر ولا له لو سحر هتتغاظ وتقوم منفوضة وتمشي ) ، اتم البكري المهمة بسلام وقلب فردة الشبشب الشمال وكانت الحلبية الدوادة اكثر خبرة في تعاملاتها مع الناس منهم فعرفت من وشوشتهم ماذا يريدون بالضبط وطمأنتهم انها لا تقوم بالسحر ولتأكدوا هاتوا طبق به ملح لتضع فيه الدود وجلست القرفصاء ووضعت الطفل البكري امامها في نفس وضعيتها مواجها وانحنت علي اذنية ورأسه تتمتم بكلمات غير مفهومة وبللت اطراف اصابعها وباطن يديها بقليل من الماء في طبق بجوارها وبدأت تكمل عملياتها بدون جراحة من خلال فرك رقيق للاذنين والرقبة واعلي الظهر والرأس والعينين وما هي الا لحظات فاذا بالدود الرفيع ينهمر من كل الاجزاء وبكثافة من العينين والاذنين والشعر متساقطا علي ثوبها الاسود الذي يركز فيه الطفل مدققا ليجد ان لون الثوب الاسود يتخلله لون زهري جميل لا يري الا من قرب وينظر بعض النظرات في قصة ثوبها المختلف عما اعتاد عليه علي نساء القرية مستنكرا قصره وعلي البنطلون التركوازي المقلم تقليمات مجسمة تغطي وتستر ما تركه ثوبها من ارجلها وعلي شراب رجليها الطويل الذي لم يري منتهاه لطولة ولكن بهرته الوانه اللامعة المتداخلة بين الاخضر والاحمر والخطوط الدقيقة البرتقالية هذا الشراب السميك الذي ملأ حذائها وانحنت اجزاء منه اعلي الحذاء في طبقة منكسرة لا تستطيع الدخول لداخل الحذاء مع هذا الحلم الواقعي الذي يعيشه الطفل بين يدي الحلبية الدوادة الشابة كانت هي لا تزال تعمل لاخراج كل الدود من جسد وراس الطفل وبعد ان انتهت حاول الطفل القيام لكنها اخبرت الام والطفل لازم تقعد اقفلك راسك واخذت تتمتم بصوت شبه مسموع غير مفهوم وضمت بيديها علي جبينه وعلي كل راسه ثم قامت بوضع الدود الذي في حجرها في طبق الملح ليري الجميع وكانت بينهم دودة كبيرة لايزال يتذكرها الطفل الذي احس براحه مخدرة غير عادية او احس بافاقة او انه في عالم جديد وليكن في نفس المكان والزوايا الذي تغير هو الاحساس المكاني والزماني وهنا قمت الام باعطائها البياض وشكرت لها حسن عملها وقالت لها ( سلميلي علي امك الحلبية صباح بسمالله ما شاء الله خلفت ) فقابلت الكلام بابتسامة نجاح كبيرة وقالت( هاجيلكم تاني) ومرت الايام ويذكر الطفل الكبير حاليا ان كل العالم يحتاج الي الحلبية الدوادة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى