إبداعات أدبيةفن وثقافة

سفيان العلالي، المقومات، السردية، المجموعة، القصصية، قوانين، البسطاء، يوسف عميرة.

في المقدمة:
أضحت القصة القصيرة، باعتبارها جنسا نثريا أدبيا حديثا له خصائصه ومقوماته، تفرض نفسها في الساحة الأدبية، فهي التقاط للحيظات قصيرة من لحظات الوجود الإنساني في بيئة زمكانية محددة، عن طريق تكثيف الأحداث وتضمينها دلالات وتأويلات متعددة.
وسنحاول أن نلامس الجوانب النظرية في هذه الدراسة، بل نرصد الخصائص والمقومات الفنية في المجموعة القصصية المعنونة ب “قوانين البسطاء”، للقاص يوسف اعميرة، والصادرة سنة 2023 في طبعتها الأولى، عن جامعة المبدعين المغاربة بدولة المغرب، والتي تتكون من سبع عشرة قصة تتأرجح بين حجم صغير وكبير، وردت في أربع وثمانين صفحة.
في العنوان:
تمثل عتبة العنوان تعريضا للقصص، كما تشكل بنيات دلالية كبرى تساعد القارئ على فهم دلالات القصص المتضمنة في المؤلف. فكلمة “قوانين” التي ضُمّنت في بنية العنوان، قد تفي بشرح ما تبقى منه؛ والقوانين تعني الضوابط والمحكّمات التي تحكم شيئا معينا وتضبطه كي لا يغرد خارج السرب، أما البسطاء والتي اختار لها القاص صيغة الجمع لما للبساطة من تأثير كبير على الحياة اليومية للإنسان المغربي بصفة عامة والزاكوري على وجه الخصوص، بحيث يودٌ القاص أن يظهر للقارئ أن هناك قوانينا لا تصلح إلا للبسطاء دون غيرهم من العوام سلبية كانت تلك القوانين أو ذات طابع إيجابي.
التيمات البارزة في المجموعة:
ضُمّنت في المجموعة القصصية المذكورة أعلاه جملة من التّيمات والموضوعات، التي من شأنها أن تسهم بشكل كبير في تغيير أجواء الحياة الإنسانية، إما من فرح إلى قرح، أو العكس، ولعل القيمة التي ـ نفترض أنها توجد جلية في أغلب الكتابات إن لم نجزم أنها موجودة في كل الكتابات بمختلف أشكالها وأنواعها ـ تطغى في هذه المجموعة القصصية هي الفقد بأطيافه واختلافاته وتبايناته، ولأن الفقد بنيوي في الإنسان منذ أن يولد، فلابد لكلّ من يبتغ الكتابة أو يتّخذها نهجا وسبيلا في التعبير عما يتحشرج في أعماق قلبه، أن يعبّر عن الفقد بطرق شتّى، كالضياع النفسي، المعنوي، المادي، ومن بين الموضوعات التي عبّر بها القاص عن قيمة الفقد، نذكر على سبيل التمثيل لا الحصر : البطالة، الفقر، التشرد، التسول، المعاناة، الموت، الحنين، الطفولة، الحب، المرض، الخيانة، الرحيل… سعى من خلالها المؤلِّف إلى تصوير الحياة المتذبذبة التي تعيشها الذات الإنسانية، إمّا بفعل العوامل و الأزمات الاجتماعية والاقتصادية (الفقر، البطالة، التشرد، الأوبئة، المجاعة…)، وإمّا بفعل الشوق والحنين (الطفولة، الأحلام، الشباب،…) أو مشاكل اجتماعية أسرية (الخيانة الزوجية، الرحيل…)، أو باستحضار الرحيل الأبدي إلى الرفيق الأعلى باعتبار الموت زمنا نهائيا للحياة الإنسانية، وحتميةً تحسم الموقف فيها.
الشخوص (الشخصيات):
تعدّ الشخصية محرّكا من المحرّكات الأساسية والأصيلة، التي تسهم بشكل حاسم وفعّال في تحريك عجلات الأحداث، وضمان استمراريتها، فيستمر السّرد حينها، بالرغم من اختلاف حدّتها تبعَا لاختلاف قيمتها ونوعيتها، بين الرئيسية والثانوية، فمنها ما يستحضره الكاتب ويستدعيه، فقط لضمان السير لمنطق السرد، بينما نجد شخصيات موظفة تتوافق مع البيئة الزمانية والمكانية التي جرت فيها الأحداث، فعلى سبيل المثال في القصة الأولى “ادعاء” نرصد القاص وظف شخصية (الطفل/المولود) كبطل للقصة، بحيث إن العائلة أخذت أحاديثها تتضارب حول اختيار الاسم المناسب، أو بالأحرى الاسم الذي يراه كلٌّ منهم مناسب، فتلك حالة الكثير من الأسر قبيل مجيئ المولود إلى الحياة يسارعون الزمن وهم لا يدركون، من أجل وضع اسم كان قد وضع في السماء قبل معرفة تكون الجنين أو زيادته حتى. وبالتالي فيوسف هنا عبر بطريقة أو بأخرى عن القوانين والأنظمة التي تحكم الكثير من الأسر وخصوصا مع تواجد الأجداد والآباء في الأمر. وفي هذا الصدد يقول اعميرة:”… غير انها لم تصمد أمام الاسمين اللذين رشحهما الأب والجد” ص7.
الشيء نفسه في قصة “قوانين البسطاء” باعتبارها محورا للمجموعة ككل، أرسى شخصية “بوعزة” وهو اسم كان في القديم وليس حديث العهد، من أجل إظهار القوانين التي تضبط حياة الإنسان البسيط خصوصا في القرى المهمشة والنائية، بل القوانين التي تُفرَض كرها ورغما على الإنسان، بحيث تعبر شخصية بوعزة عن ذاك المسكين الذي تضرر كثيرا من تفشي وباء كورونا متحدّيا الصعاب والعراقيل والحجر الذي دام لمدة ليست بالهيّنة، إذ تكالبت الظروف على الإنسان الهامشي من كل جانب نفسية ومعنوية ومادية… وبالتالي تختنق نفسه من الوضع المزري الذي آلت إليه الاوضاع آنذاك، يقول صاحب المجموعة: “طال الحجر، خويت جيوبه تماما، وطالت مناجل الدهر ذلك النزر القليل من المال… ونكّس رأسه متّقيا نظرات أهله التي تمزّق أوصال القلب” ص19.
استعان أيضا يوسف اعميرة بشخصية الطفل “حسن” في قصة “ليلة العيد” للتعبير عن الفرحة التي تدخلها أجواء العيدين، الفطر والأضحى، بحيث تقتنص الأمهات والأخوات جزاهن الله خير الجزاء، لإعداد ما لذّ وطاب من الحلوى كلّ على قدر مستطاعه، ولأن الناس كانت تعاني الفقر ولا تتذوّق مثل تلك الأطباق إلا موسميا، قادت اللُّعاب الطفلَ إلى سرقة بعض قطع الحلوى قبل أن يتم استنطاقه من قبل الأسرة في جوّ انتهى بالفرح والابتهاج، تاركين وراءهم ما قد يحول بينهم وبين نكهة العيد وابتسامته، يقول في هذا الصدد: ” انفجر الأبوان ضاحكين، وقبلا بالحكم، بينما أخذ حسن يحلف أنه لم يتناول أكثر مما قاله…قبل أن تأتي بصحن مليئ بالحلوى لمصالحته” ص 39/40.
كذلك في قصة “الفراولة المقدسة” تعبيرا عن حرمان الناس البسطاء من أبسط حقوق العيش وأوفرها في البلاد، وقد عبّر عن ذلك حيث قال: “شرعت في تناولها واحدة تلو الأخرى، أقضمها بمتعة منقطعة النظير، حتى أتيت على الكيلوغرام كاملا” ص52.
ثم في قصة “كبير القرية” شخصية الحاج عبد العزيز الذي تجبّر وتعالى عن سكان القرية وصار ينهب حقوقهم بكل وقاحة ودون مراعاة لظروفهم المعيشية.
إن اختيار الشخوص الأبطال في القصة كان بدقة متناهية وبحرفية متقنة، بحيث استطاع القاص أن يعبر عن الحالة الاجتماعية للبسطاء في بلاد بسيطة ومع أناس لا يعرفون للعيش الكريم معنى ولا للسهل مجالا.
الزمن في المجموعة:
يعد الزمان من أهم مكونات السرد وتحديا من التحديات الكبرى للقارئ؛ إذ نجده متضمّنا ومختفيا بين منطق السرد، ويتيح للقاص أو الروائي أن يبني الشخصيات ويصنعها ويوزع الأدوار بينها، كما يجد القارئ صعوبة وضع تحديد زمن القصة بدقة، أي كما وقعت في الماضي، وزمن السرد أو الخطاب.
يخضع الزمن في المجموعة القصصية، إلى الصيرورة والتّحول في بناء الحدث في القصة، إذ هناك جدلية قائمة بين الأزمنة وتنوعها في المجموعة؛ فقد وظف زمنا فيزيائيا إذ استعمل ألفاظا مثل (الصباح، المساء، الليل، النهار…) دلالة على أن بعض الأحداث وقعت في (الماضي)، أو يقفز إلى الكشف عن الواقع وتحليله (الحاضر)، أو يستعين بالاستشراف والتنبؤ للمستقبل، والشيء نفسه بالنسبة للزمن الوجودي (النشأة، الموت…)، والنفسي (الخوف، التيه، الحيرة، الشوق، الحنين، الحزن، الألم…).
وبالتالي فإن الزمن يكتسي أهمية ذات طابع بليغ، إذ يسهم بشكل فعّال في سبك أحداث القصة وتماسكها.
المكان:
تحتوي المجموعةُ أمكنة مختلفة ومتعددة، تختلف وتتعدد بتعدد القصص، وأفعال الشخصيات، إذا وقفنا عند لفظة “البسطاء” بمعنى الإنسان البسيط في البراري والقرى البسيطة، ربما يبتغي بها القاص ذكر الأماكن التي تشكل عائقا في الحياة، ما يطلعنا على أبعادٍ قيميةٍ (التيه، الاحتقار، التهميش، الطفولة، الصبا…)، قد نسجل أيضا حضور فضاء المدينة، إذ يضم كلّا من الشوارع، الأزقة، الأحياء، الحديقة… وينقل لنا: الهوة بين الفقراء والأغنياء، البخل، التيه، تقهقر القيم، هيمنة المادي على الإنساني… وبهذا يكون القاص قد نجح إلى حدّ ما في توظيف الأمكنة التي من شأنها أن تنقل التعبير عن البساطة بصورة تميل إلى أن تكون الشاكلة التي ابتغى الكاتب أن يعبر بها وعنها.
مسار الأحداث:
اتخذت الأحداث مسارا طبيعيا، ومنطقا سرديا، متعارف عليهما في بناء القصة القصيرة من حيث السّرد والخطاب، وهو نظام سبب ونتيجة، أو نتيجة وسبب اللذين يتبادلان المواقع إلى حين نهاية القصة.
أسلوب الحوار:
نسجّل حضورا بارزا للحوار في المجموعة القصصية، إذ تكمن فيه مظاهر الصّراعات النفسية (الذاتية)، والاجتماعية بين الشخصيات، كما هو كامن في قصص “رجال” و”يوميات رجل درعي” “وبحر من خزي” ما خوّل للقاص أن يسرد أفكاره ويتصوّرها على لسان الشخصيات.
أسلوب الوصف:
عمد الكاتب إلى توظيف الوصف بغية وصف الحالة النفسية والاجتماعية للشخصيات، دلالة على أن الكاتب يعرف عن شخصياته الكثير من المواصفات والسمات، ويمتلك معرفة شبه دقيقة، كما أسّس القاص سرده على عنصر التشويق والإثارة؛ على سبيل التمثيل لا الحصر كما هو مجسّد في “قفص فسيح” و” قوانين البسطاء” و”بحر من خزي”، وبالتالي استطاع المبدع يوسف اعميرة وصف البسطاء والقوانين التي تحكم عيشهم وتضبطه.
في الخاتمة:
نشير في النهاية إلى أن القاص قد ضمّن في المجموعة مختلف المقومات السردية القصصية، من حيث بناؤها الفنّي، وأيضا سردها، وكذا تشكيل وتشكّل دلالاتها بمختلف سياقاتها، كما لا تفوتنا الفرصة، في إبداء رأيينا الشخصي، وانطباعاتنا حول المجموعة في كلّيتها. وبالتالي نجد الكاتب قد:
اعتمد لغة سردية تعبيرية واضحة.
نوّع في الأزمنة التي وظفها، إذ في أحايين نجده يسترجع بعضا من الأحداث، وفي أخرى نرصد أنه قد استبق بعضها، وفي ثالثة يحذف بعض الأحداث، رغبة في إضفاء جمالية على الزمن القصصي.
أحسن اختيار الأماكن، التي تحمل في طياتها بعضا من دلالات العنوان.
عمل بسلاسة في توظيف الأساليب، كالحوار، الوصف، مما ساهم في تلميع الكتابة.

ملحوظة:
يبقى كل ما جادت به أناملنا مجرّد محاولات، قصد بلوغ ما تكتنفه المجموعة القصصية السالفة الذكر من دلالات، وبغية الوقوف عند الجوانب الفنية للمجموعة عينها، كما نشير إلى أنّنا قد لا نُوفّق في رصد كلّ تجلّيات المقومات السردية في المجموعة، كما قد لا نعطيها حقّها من الدرس والتحليل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى