آراء حرة

دكتور عبد الحليم قنديل يكتب..السباق على “رفح”

 

 

   فى اللحظة الراهنة من الحرب الجارية بالمنطقة ، لا تبدو عملية غزو “رفح” قضية معزولة ، ولا محصورة فى الضيق الخانق لمساحة “رفح” ، التى لا تزيد على ستين كيلومترا مربعا ، ولا فى الآثار المروعة المتوقعة ، مع تكدس نحو المليون ونصف المليون فلسطينى ، أغلبهم نازحون من شمال قطاع “غزة” والوسط ، يعيشون فى العراء بالمعنى الحرفى ، وأى عمل عسكرى همجى عليهم مما تعوده كيان الاحتلال ، سيؤدى غالبا إلى مجزرة غير مسبوقة فى تاريخ الحروب ، تقفز بعدد شهداء وضحايا ومفقودى حرب الإبادة الجماعية على أهل “غزة” ، من نحو مئة ألف اليوم إلى مئات الآلاف ، وهذا أول خاطر يرد إلى البال ، وتنشغل به الدنيا كلها ، وإن كانت هناك أبعاد أخرى أخطر .

  فقد تحولت عملية “رفح” المزمعة “إسرائيليا” إلى سباق لاهث بين كافة اللاعبين ، فواشنطن تريد تأجيلها ، وبدعوى ضرورة تنظيم إخلاء واسع للمدنيين قبل الشروع فيها ، وأطراف إقليمية ، لعل أهمها مصر ، تريد توقى العملية برمتها ، ولها مخاوفها المفهومة ، فهى تعتبرها تهديدا مباشرا لأمنها القومى ، وتخشى من دفع مئات آلاف الفلسطينيين إلى تهجير اضطرارى نحو سيناء هربا من القتل ، فوق أنها تعتبر التهجير لو حدث تصفية للقضية الفلسطينية ، وقد اتخذت “القاهرة” عددا من الإجراءات المعلنة والمخفية ، وإن كانت تحرص على تسجيل موقف سياسى متعدد الوجوه ، لا تهدد فيه بتعليق أو إلغاء ما تسمى معاهدة السلام ، وتستبقى لنفسها دور وساطة لإيقاف الحرب ، عبر مفاوضات غير مباشرة بين “حماس” وكيان الاحتلال ، انتقلت من “باريس” إلى “القاهرة” ، ومن دون أمارات أكيدة على نجاح نهائى قاطع حتى تاريخه ، فقد أعلنت “حماس” قرارها بنسف أى مفاوضات ، إذا جرى غزو “رفح” بريا ، فيما تواصل حكومة “بنيامين نتنياهو” مراوغاتها ، ولا تبدى تجاوبا مع مساعى واشنطن والقاهرة والدوحة ، وأقصى ما قد تقبله حكومة “نتنياهو” ، أنها قد ترتضى بهدنة موقوتة لأسابيع ، يجرى فيها تبادل أسرى فلسطينيين و”إسرائيليين” ، وبأعداد ونوعيات مختلف على تحديدها ، وعلى أن تعود للحرب بعدها ، وإعطاء الأولوية لعملية غزو “رفح” بريا ، وبدعوى وجود كتائب عسكرية فلسطينية فى أقصى الجنوب ، لا تكتمل حرب العدو من دون القضاء عليها ، وكأن حكومة “إسرائيل” صدقت مزاعمها وأكاذيبها ، بأنها قضت على أغلب كتائب “القسام” والمقاومة من شمال “غزة” إلى “خان يونس” ، بينما لم تخرج كتائب المقاومة من أى مكان فى “غزة” ، ولا تزال تواصل معاركها وكمائنها وقتالها الإبداعى فى كل مكان ، ولا تمكن العدو من استقرار وثبات فى أى منطقة دخلتها أو خرجت منها صوريا ، وقبل أيام ، بدت صورة الصدامات القتالية ظاهرة ، فقد تفاخرت “إسرائيل” بعملية تحرير أسيرين لها فى “رفح” ، وصورت القصة على أنها عملية بطولية خارقة ، بينما توحى الدلائل ، أن الأسيرين المقصودين لم يكونا أصلا فى حوزة “حماس” ، بل لدى عائلة فلسطينية ، وهو ما نبهت له “حماس” فى أكثر من بيان مع بداية القصف والغزو البرى الوحشى ، الذى يقتل المدنيين الأبرياء فى “غزة” ، ويقتل حتى كثير من الأسرى “الإسرائيليين” ، وفى إطلالات “أبو عبيدة” المبكرة ، قال بوضوح ، أنه ليس كل الأسرى “الإسرائيليين” لدى “حماس” وحدها ، وأن الانهيار السريع للسياج والتحصينات العسكرية والاستخباراتية “الإسرائيلية” صباح 7 أكتوبر المزلزل ، صحبه اندفاع عفوى واسع لمنظمات ولأفراد عاديين إلى قلاع “إسرائيل” المنهارة ، وأن بعض الأسرى اقتيدوا إلى منازل عائلات لا أنفاق منظمات ، ولا شك أن عملية “إسرائيل” المتفاخر بها عندهم ، وإلى حد اعتبارها نقطة تحول فى الحرب ، انطوت على خرق ما ، امتنعت “حماس” و”كتائب القسام” عن الخوض رسميا فى تفاصيله إلى اليوم ، ربما اتقاء لشرور دسائس وفتن أهلية ، لكن ما جرى فى نفس يوم العملية المذكورة ومن بعده ، وفى كمين “خان يونس” ، الذى قتل فيه عدد من قادة الكتائب “الإسرائيليين” بتفجير واحد ، نسف مزاعم “نتنياهو” وعصابته ، وداس ادعاء “يوآف جالانت” وزير الحرب بتحقيق نصر ما مع استرجاع الأسيرين بعملية عسكرية خاصة ، وهو زعم تنفيه حتى تقارير المخابرات الأمريكية ، التى تؤكد أن أغلب قوة “حماس” العسكرية لا تزال على جاهزيتها الأولى ، وأن ثمانين بالمئة من أنفاق المقاومة لا تزال بعيدة عن يد جيش الاحتلال ، وأن قوات المقاومة وكتائبها المعاد تنظيمها ، لا تزال تعمل فى كل قطاع “غزة” ، وليس فقط فى “رفح” ، التى يصر “نتنياهو” على أن غزوها هو مفتاح النصر لجيشه ، بينما الغزو إياه ، لن يقدم كثيرا للعدو فى معارك القتال وجها لوجه مع جيش فلسطينى غير منظور ، يتحرك بسلاسة تحت الأرض ، ولن يمنح العدو صورة نصر مقنع لجمهوره ، إلا إذا كانوا يعتبرون أن أشلاء الأطفال والنساء والمدنيين الأبرياء هى عنوان النصر الوحيد وأكاليل غاره وعاره .

  والمعنى ببساطة ، أن السباق إلى “رفح” ، أو تجنب غزوها بريا بنتائجه الفوق كارثية ، يشغل بال الأطراف كلها ، ففيما تصر “إسرائيل” على تصويره كطوق نجاة لجيشها المهزوم ، وتصر “حماس” على رفضه ، وتطالب وتسعى لإجلاء جيش الاحتلال عن كل قطاع “غزة”، وإن كانت مستعدة لإبداء مرونة ما فى التفاصيل ومراحل وقف العدوان ، فيما تتلمس “القاهرة” و”الدوحة” مع “واشنطن” سبل البحث عن مخارج ، قد يجرى التوصل إليها ، أو تتعطل ، ولكل طرف دوافعه ، فواشنطن تريد فتح الباب لهدوء طويل نسبيا ، ربما لإنقاذ الرئيس “جو بايدن” من مصائر تراجع شعبيته ، وتقدم منافسه المحتمل “دونالد ترامب” عليه فى استطلاعات الرأى العام ، بينما الأيام تتدافع إلى انتخابات الرئاسة الأمريكية فى نوفمبر المقبل ، ويبدو “بايدن” تائها ضائعا فى التفاصيل، لا يضمن نجاحا فى ضغط ما على “نتنياهو” ، والأخير يدرك بحسب مصالحه الشخصية والسياسية ، أن وقف الحرب ـ حتى لو كان موقوتا ـ يعنى نهايته وذهابه إلى مزابل التاريخ ، ويعتبر غزو “رفح” كخشبة إنقاذ قد تغطى عورات فشله ، بينما حلفاء “إسرائيل” الأوربيون يعربون عن فزعهم من غزو “رفح” ، وإلى حد توجيه “جوزيب بوريل” منسق الشئون الخارجية بالاتحاد الأوروبى لانتقادات عالية الصوت ، سخر فيها من ما يقال عنه خططا لإخلاء المدنيين فى “رفح” ، وقال أنه لم يتبق من بدائل للإخلاء ، سوى أن يرسلوا الفلسطينيين “إلى القمر” ! ، فليس من مكان آمن فى قطاع “غزة” كله ، واستنكر “بوريل” ادعاءات واشنطن عن رغبتها فى حماية المدنيين ، وقال ما معناه ، أن “واشنطن” لو كانت صادقة ، فإنها كان يجب أن تقلل من دعمها العسكرى والمالى الغزير للكيان “الإسرائيلى” ، وهى ـ أى واشنطن ـ تفعل العكس بالضبط ، بينما يبدو مشهد قيادة كيان الاحتلال عظيم الفوضى والاضطراب ، وإلى حد زعم وزير المالية “بتسلئيل سموتيرتش” أن القاهرة هى السبب فى هجوم 7 أكتوبر ، وأنها تدعم “حماس” بالسلاح عبر الأنفاق ، وهو ما أثار المزيد من حفيظة الحكومة المصرية ، ودفعها لوصف حديثه بالتحريضى والتخريبى ، فيما تتابع “القاهرة” أولوياتها من وجهة نظرها ، وتأمل فى دفع التفاوض الجارى إلى نتيجة ما ، قد تعطل أو تلغى عملية غزو “رفح” ، بينما تلعب أطراف أخرى أدوارا فى تعطيل عملية “رفح” ، رغم أن هذه الأطراف لا تشارك فى أى تفاوض ، فعمليات “الحوثيين” فى البحر الأحمر مثلا ، لا تتراجع رغم حملات القصف الأمريكى والبريطانى ، وردود واشنطن العسكرية على قتل جنودها فى عملية “البرج 22” ، تبدو بلا أثر رادع لجماعات الولاء الإيرانى فى العراق وسوريا ، وكل هذه الأطراف تشترط لإيقاف عملياتها وقف حرب “غزة” ، وبالتالى تعطيل عملية غزو “رفح” ، وحتى “حزب الله” فى لبنان ، يصعد عملياته شمال فلسطين المحتلة على نحو محسوب ومؤثر ، لا يدخل فى حرب شاملة مع “إسرائيل” ، التى تبحث عن حل سياسى ما ، يبعد قوات الرضوان ـ التابعة لحزب الله ـ عن خط الحدود ، ويتيح فرصة ما لإعادة سكان مستوطنات الشمال ، وهو ما لا يتجاوب معه “حزب الله” ، الذى رفض مبادرة فرنسية لإبعاد “قوات الرضوان” إلى مسافة أقل من 10 كيلومترات عن الحدود ، ولا يخفى أنه يشترط وقف حرب الإبادة على “غزة” قبل أى تفاهم سياسى لبنانى ـ “إسرائيلى” ، وهو ما يعنى ضمنا ـ ربما صراحة ـ تعطيل أو إلغاء عملية غزو “رفح” ، وهو ما يعنى أن موارد عديدة ومتفرقة اليوم ، تجتمع من دون سابق اتفاق على قلب “رفح” ، وقد يؤدى ذلك كله إلى تأجيل عملية غزو “رفح” حتى إشعار آخر .

[email protected]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى