صلاح سلام

دكتور صلاح سلام يكتب.. التقصيرة

لم يكن في ذاك الزمن الذي عشنا طفولته في تلك البلدة التي كانت في غياهب النسيان لايعرفها الا من خبروا طرق الحروب او رمى بهم حظهم العاثر إلى تلك المنطقة النائية في سيناء وربما كانت هي والصعيد بمثابة المنفى الذي ترسل اليه الدولة من تريد عقابهم من الموظفين…في بلدتي العريش والتي كانت عاصمة لسيناء قبل أن يتم تقسيمها إلى شمال وجنوب…كانت تقطن السيدة وهيبة”ياسمين” وهي مدرسة الحياة الأولى لي فقد تعلمت منها الحكم والامثلة وبعض الاهازيج الغنائية وحفظتها فأنا أصغر أبنائها وملتصق بها ليل نهار وقد فارقنا الاب مبكرا …كانت القهوة هي لمة الاحباب وقت العصاري وانا هنا لا اقصد المقهى فقد كان الجلوس على المقهى مفسدة في نظر المجتمع ولايجلس عليها الا العاطلين او الغرباء…و لكني اقصد هنا البن وشرب القهوة عندما يجتمع النسوة عصرا بعد أن يفرغن من المسؤوليات المنزلية…وكانت السيدة وهيبة تميل إلى اقرانها من الأرامل وما اكثرهن فالرجال أن لم يموتوا من الحروب ماتوا من الكد وشظف العيش…أما البن الذي يجمع الاحبة كان حبا أخضر ويتم تحميصه على نار البابور”الوابور” ثم يتم طحنه بطريقة بدائية ..فلم يكن لا عبد المعبود ولا شاهين قد دخلوا التاريخ بعد…وإنما يتم وضع البن فور تحميصه في اناء من الفخار الاسود يسمى المصحن وهو يشبه الحلة الدائرية وقد كانت الحاجة وهيبة تضع المصحن بين قدميها وهي تجلس على كرسي خشبي قصير الارجل كنا نسميه كرسي الحمام وتمسك في يدها خشبة طويلة مربعة يصل طولها الى متر تقريبا ومقسمةالى فقرات حتى يسهل القبض عليها بين الفقرات ولها طرف مدبب ولكنه دائري ..وتقوم بعملية صحن البن بتحريك “التقصيرة” وهو الاسم الحركي لهذة الخشبة بنية اللون بطريقة دائرية… ثم تضيف عليه بعض من الحبهان وتستمر هذه الحركة الدائرية إلى أن تتم عملية الطحن..وقد لاحت لخيالي هذه التحفة الخشبية ونحن في عيد الاضحى حيث كنا نستخدمها احيانا لنقطع عليها اللحمة بالساطور…مسكين هذا الجيل فلم يعرف المونيلكس ولا الخلاط براون كانت كل حياته يدوية بدائية …ولم تكن عملية تحميص البن وطحنه تتم وكأنها تكدير…مطلقا..فقد كان يصاحبها بعض الأغاني التراثية…يلا صبوا هالقهوة وزودها هيل…صبوها للناشاما عظهور الخيل..”والهيل هو الحبهان” … ويامين يقولي أهوى اسقيه بأيدي قهوة…وتنتهي المراسم بعد حضور الصحبة الحلوة عصرا وكل واحدة في جعبتها مفاجأة..فالحاجة ام رحمي قامت بتحميص قليل من اللب الذي فاض من بطيخة مابعد الغداء..وأم مصطفى جائت بقطعة من العجوة بالسمسم والتي تحتفظ بها من خير ثمر النخيل الذي قطفوه منذ حين…وأم محمد جاءت ببعض السوداني الذي احضره ابنها وهو عائد من غزة… والحاجة ام سمير معها قطع من الفايش المحمص برائحة الفانيليا والتي تجيد عمله في الفرن البلدي بعد انتهاء الخبيز وعلى النار الهادئة …ولعمل القهوة طقوس خاصة في صينية ترتص فيها الفناجين إلى جانب السبيرتاية والتنكة النحاسية عندما تكون الجلسة نسائية…أما إذا كانت الجلسة رجالية فالطفس يختلف تماما ..فالكانون او المنقد هو من يتوسط الجلسة وعليه بكرج القهوة النحاسي واحيانا المنيوم او اكثر وتصب القهوة للرجال بأصول …مرات ومرات الا اذا حرك الرجل فنجانه يمينا ويسارا بطريقة خاصة عندها يتوقف الساقي عن الملأ…ومع القهوة تدور السوالف والحكاوي واحيانا تقضى ” بضم التاء” الحاجات ونسمع الحقيقة والخيال وتدور بنا الدوائر…ويادارة دوري بينا وضلي دوري بينا تينسوا اساميهم وننسى اسامينا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى