أحمد محمد الشربيني

دكتور أحمد محمد الشربيني يكتب..سيرة العارف بالله مولانا الشيخ حسن حسن رضا الباز كما رواها أحفاده وأحبابه

من أدب السيرة (غير الذاتية) 

 

كتب راجي عفو ربه الفقير إلى الله د.أبو وهاد الشربيني:

فى ليلة صائفة استدار بدرها واكتمل جمالها عام ١٨٨٠م كانت قريتنا الهادئة على موعد مع صرخة حانية رنت الفضاء ملبية نداء الحياة فكان مولد طفل ضئيل الجسم يشع وجهه نورًا يستشرف أفق التقوى ويسطع في فلك الصلاح وكأن والده الشيخ حسن رضا الباز قد توسم فيه – بسمته النوراني الصوفي- تقاسيم النجاح والفلاح والرضا والسماح فأسماه حسنًا على اسمه وكانت تلك سنة متبعة فى أهل صافوراء إلى عهد ليس ببعيد حيث كان الوالد الذى رزق بعدة أبناء ذكور ينتقى أحدهم ليسميه باسمه تيمنًا بذلك الأمر وتخليدًا لذكرى الأب بعد موته ليظل اسمه دارجًا سابحًا بين الناس حاضرًا تردده الأفواه والأنفاس..ولم لا والأب الشيخ قد أنجب دون ذاك الطفل عدة أبناء؟!!

أكبرهم سليمان حسن رضا ثم عبد الرحمن، ثم عبد السلام، ثم عبد المعطى وكان الطفل ثالث خمسة من أشقائه الذكور أما الأب فكان أزهريًا تقيًا درس فى رحاب الأزهر مطلع القرن التاسع عشر وكان ميسور الحال قرير البال يمتلك أرضًاواسعةَ الرقعة طيبةَ البقعة معتدلة الماء وافرة الخير والنماء وكان منزله متسع الأبهاء مترامي الأنحاء صحي الهواء وقد آثر بعد تخرجه فى الأزهر أن يلزم صافوراء ويباشر استزراع حقوله الخضراء وتعهد أفدنته الغناء وكان يلقي دروسًا فقهية بين الحين والحين فى زوايا القرية، لكنه لم يكن منقطعًا لها بصفةٍ رسميةٍ وعمليةٍ فقد كان فلاحًا لايشق له غبار وتاجرًا لا يدانيه خواجة أو سمسار…وفى هذه الحياة المفعمة بالنشاط الديني والعمل الزراعي والنشاط التجاري التي يظلها مناخ ثري درج حسن الصغير كالعود النضير وسط أزاهير أخوته وأهل محبته في قريته فحفظ القرآن على يد شيخ من آل بحيري تلكم العائلة الغناء بالشيوخ والعلماء والفقهاء

 ثم التحق بالتعليم الأزهرى حيث معهد طنطا ومنه شخص إلى القاهرة العامرة حيث أزهرها الشريف وأضرحة آل البيت ولما أتم رحلته العلمية عاد أدراجه إلى صافوراء وعمل بالدعوة إلى الله والإمامة والخطابةثم تزوج فى سن الخامسة والعشرين من عمره وأنجب أربع إناث (١)الحاجةآمنة حسن رضا والدة البطل المقاتل كمال كشك جدة المؤرخ العسكري السعيد كمال كشك (٢ )الحاجة حجازية حسن رضا والده الأستاذ عبد العزيز الطباخ (٣) الحاجة الست حسن رضا والدة المغفور له-بإذن الله-الحاج محمد أبو طه النادى(٤)الحاجة غنا حسن رضا والدة البطل السيد محمد محمد على داود بطل حرب الاستنزاف ومعركة السبت الحزين. وكان للشيخ حسن ولدٌ غض ناصع البياض أسماه” عطية” تيمنًا بهذا الاسم ولم لا وقد ولد على فترة من إنجابه لبناته الأربع وقد توسم فيه الصلاح فوهبه للعلم كدأب أهله وبني جلدته الأزهريين وظل عطية الله يترعرع أمام عيني والده الثري يومًا بعد يوم ولما شب عن الطوق ذهب إلى رحاب الأزهر الشريف حاملاً متاعه وزاده وأضحى العلم والفقه مطمحه و ملاذه وفى إحدى إجازاته أحس بوعكة صحية ألمت به بمجرد قدومه إلى صافوراء فلزم فراشه والشيخ الوالد يحضر لنجله المرزوء حلاق الصحة وألوانًا من الوصفات الشعبية عله يبرأمن ذلك الوجع لكن هيهات فقد انتصف الليل ومازال الشيخ الفتى يتلوى فى فراشه وجعًا ويتضور ألما وفجعا ولا حياة لمن تنادى!!!

ومرت ساعة وساعة وفكر الشيخ أن يحمل ولده على( الكارته العائلية) ويذهب به حيث حكماء السنبلاوين وأطبائها المعدودين لكن دون جدوى فقد بدأت أنفاس عبد المعطى تهدأ شيئًا فشيئًا وجحظت عيناه وسمعت حشرجة رحيله ثم فاضت الروح الطاهرة إلى بارئها…. فقد مات الولد الوحيد فلله ما أعطى ولله ما أخذ… هنالك تصبر الشيخ واحتسب وتجلد من الوهن والفزع والوصب وحمل الشيخ ولده على يديه بعد غسله وأودعه النعش بنفسه ثم ورى التراب فياله من مشهد يحرق الأكباد ويفطر قلوب العباد…ولا أحد يدرى حتى الآن ماعلة موت عطية؟…أمات نتيجة لانفجار الزائدة الدودية؟ أم جراء إصابته بداء الكوليرا؟أما أصابته سهام الحاسدين فأسكنته القبر مصداقًا لهدى النبي الأمين؟

لكن الشيخ صبر صبرًا جميلاً واحتسب ولده عريسًا نبيلاً…فتفكر في حال ولده وحكمة فقده ولسان حاله يلهج بقول أبي العتاهية :

نحن في داريُخَّبِرنا 

            ببلاها ناطقٌ لَسِنٌ

دارُ سوء لم يُدمْ فرحٌ

         لامريء فيها ولا حَزَن 

في سبيل الله أنفُسُنا 

           كلُّنا بالموت مُرْتهن 

كلّ نفس عند ميتتها 

       حظُّها من مالها الكفَنُ

إن مال المرء ليس له 

         منه إلا ذكرُه الحسنُ

وأصابت شيخنا جذبة دينية فتصوف وتنسك وزهد عن متاع الدنيا وأمسك؛ وآية ذلك أنه احتجب فى إحدى حجرات منزله طيلة عشر سنوات منقطعًا للذكر والصلاة والدعاء لا يرى مخلوقًا ولا يعرف زوجًا مشوقًا ثم خرج من خلوته وفارق رهبانيته عندما حان الميقات فألفى الناس شخصًا آخر غير هذا الذى عرفوه يرفل من قبل فى حلل النعيم وثياب الخير العميم لقد طالعوا شيخا يرى-بأمر الله- من وراء سجف الغيب يحدث الناس عما اقترفوه وما يزمعون فعله بلا زيف أو ريب فتحدث الناس بكراماته وبركاته وكيف أنه أدار آلة (النورج)ودعاها أن تعمل بإذن الله الحي القيوم الذى لا تأخذه سنة ولانوم …وكان الشيخ محبًا للمنشية وأكنافها لاسيما قرية (أبوعيد) ولم لا ومعظم أرضه كانت فى المنطقة الواقعة على مشارف المنشية بعيد صافوراء بكيلو مترونصف!!

لكن الشيخ كان يغشى صافوراء بين الحين والحين يتفقد أهله ويطالع أرضه ويقرأ ورده ثم يخلو طويلاً إلى نفسه …وتمضي الأيام سراعا وتمرالليالى تباعًا وفى ليلة وقفة العيد الأضحى أحس الشيخ بعلمه اللدني بكارثة سوداء وفاجعة نكباء ستحل بأطنابها على أرض صافوراء؛ إذ قال لغير واحد من الجيران والأقربين :((ستحل مصيبة على الدور والحيطان وستلتهم البيوت ألسنة النيران وستبدأ الفاجعة من بيتنا فأنا أرى دمارًا قد حان وخرابًا للبنيان وثكلى من النسوان وأيتامًا من الصبيان)) فحذر وأنذر لكن دون جدوى ولم يستمع لنصحه أهل الحل والعقد وأصحاب الفقه والفتوى وقالوا:” تالله إنه لرجل مسه طائفٌ من الجان أو أصاب عقله الوهن والتوهان واتهموه بالمناخوليا؛ جراء فقد ولده الوحيد وعقله الشريد وسمته الصامت الوحيد…لكنهم تيقنوا بصدق وعيده وتهديده فى صباح العيد الأضحى المبارك عام١٩٢٧عندما شبت النيران فى أحد منازل عائلة رضا وكما يقولون :”النار من مستصغر الشرر” حيث رفرفت حمامة محترقة الجناح فوق البيوت المجاورة وكان من عادة أجدادنا فى تلكم الحقبة أن يكللوا أسطح منازلهم الطينية بأكوام القش وحزم الحطب وسيقان الهندى

كما كانوا يتوجون مقاعد تلكم المنازل بأبراج للحمام حجمها ضئيل وارتفاعها قليل إلى جانب صوامع الغلال والحبوب لاسيما القمح والشعير..ولك أن تتخيل ما فعلته تلك الحمائم المتنقلة هربًا بفعل الاحتراق حيث فارقت صفتها الحيوانية وأضحت بإذن ربها كُرياتٍ من اللهب توجهها المشيئة الإلهية إلى مستقرها ودار قضائها واستحالت القرية إلى بركان ينفث نارًا وينعي خرابًا ودمارًا ويبعث ركامًا من الرماد والدخان احتل بكثافته الآفاق والأركان…وتم استدعاء مطافي ميت غمر والسنبلاوين ولم تكن الطرق معبدةً أو مرصوفةً كما هى عليه الآن فجاء الغواث ورجال الإطفاء بعد فوات الأوان؛ إذ التهمت النيران شوارع وأزقة بأكملها وأتت على الأخضر واليابس ولم تُبقِ على محاصيل الأجران أو ترحم طائرًا أو صغيرَ حيوان ساعتها أقيمت مخيمات للإيواء وتوافد المسعفون لنقل الجرحى ومصابي الحروق وما أكثرهم آنذاك!!

وكم أسفرت تلك الفاجعة عن هلاك الكثيرين؛ إذ فقد بلدتنا ثلاثةً وثمانين صافورياً معظمهم من الأطفال والنساء وفقدت عائلة رضا وحدها فى تلك النكبة قرابة ثمانية رجال وطفلين إلى جانب هلاك معظم الدواب ونفوق الماشية إثر اختناقها بفعل الدخان الكثيف …وأكد جدي الشيخ أحمد الشربيني فى مذكراته والأستاذ السعيد كمال كشك في تعليقاته أن مبدأ الحريق كان فى حارة السماعين(حيث شارع دكان الحاج حافظ هلال القديم) وكانت تلكم الحارة مسدودة كغيرها من حارات بلدتنا آنذاك وتسبب ذلك فى عرقلة جهود الإطفاء التى قام بها الأهالى مما أدى إلى سرعة انتشار النيران وفقدان السيطرة عليها؛ فاضطر بعض حكماء القرية بمساعدة شبابها اليافعين أن يفتحوا فرجة فى حارة السماعين كي ينفذ منها المسعفون والمنقذون ومنذ ذلك اليوم حظر عمد القرية تباعًا سد الحارات والأزقة فأصبحت الطرق متصلة والشوارع متسعة وأضحت القرية مترابطة المسالك والدروب…وعقب الحريق تفقد الشيخ الدمار الذي حاق بداره وماله وكم هاله ما ألم بسائر بيوت القرية؛ ساعتها تذكر قول أمير الشعراء:

هذى طلولك أنفساً وحجارة

هل كنت ركناً من جهنم مسعراً؟!

قد جئت أبكيها وآخذ عبرة

فوقفت معتبراً بها مستعبرا

أجد الحياة حياةَ دهرٍ ساعةً

وأرى النعيم نعيمَ عمرٍ مقصرا

وأعد من حزم الأمور وعزمها

للنفس أن ترضى، وألا تضجرا

ما زلت أسمع بالشقاء رواية

حتى رأيت بك الشقاء مصورا

فعل الزمان بشمل أهلك فعله

ببني أمية، أو قرابة جعفرا

بالأمس قد سكنوا الديار، فأصبحوا

لا ينظرون، ولا مساكنهم تُرى

فإذا لقيت لقيت حياً بائساً

وإذا رأيت رأيت ميتاً منكرا

والأمهات بغير صبر: هذه

تبكي الصغيرَ، وتلك تبكي الأصغرا!

فأمضَّهُ حجمُ الخراب وروعه البيت اليباب؛ ومن ثم ارتحل شيخنا إلى قرية (المنشية) بلا ارتياب ريثما تستقر الأمور شأنه فى ذلك شأن أخيه الوقور الشيخ عبد السلام حسن رضا الذى نزح بأهله بعد حريق صافوراء واتجه بزوجه وولديه صوب قرية العارف بالله الصحابي الجليل عبد الله بن سلام فنقل أطيانه وسائر ثروته إلى هناك وله ذرية كبيرة من الأحفاد ماتزال تذكر تراث الأجداد و تتناقل سيرة صافوراء وتتنسم ما بقي من عبق تلكم الأيام الخوالي..أما شيخنا حسن الصغير فقد دأب على التنقل والترحال بين ثلاثية مكانية أركانها:صافوراء والمنشية و(أبو عيد )وكانت له أحوال غريبة وقصص عجيبة أفاض الناس فى ذكرها بين أربُع تلكم البلاد التى حل بدروبها وحقولها فكان يصلي الظهر فى صافوراء والعصر والمغرب فى المنشية ثم يعود أدراجه إلى صافوراء ليصلي العشاء ثم الفجر وهكذا دواليك وكان من عاداته أن يصلي البردين فى قرية المنشية مناوبة مع مسقط رأسه صافوراء وتسامع أهل تلكم البلاد بكراماته الربانية وإلهاماته الصوفية لاسيما أهل المنشية وكان فى أخريات حياته يركن للعزلة والانقطاع للعبادة والذكر وقيل أنه شوهد مستلقيًا أكثر من مرة تحت ظلال شجرة التوت الضخمة التى كانت تتوسط الجبانة الصافورية القديمة غير مكترثٍ بليل بهيم أو جني ذميم أو سكون مُطبقٍ عميم لا تنوشه المخاوف والظنون ولا يصبه قر أو قيظ أو طوارق ليل تكاد تتميز من الغيظ…كما كان يُشاهد على ضفاف ترعة أبي عيد ساجدًا راكعًا يكثر من الدعاء والتسبيح كما كان يغشى أهله ليلاً؛ ليتفقد أحوالهم فينزل أرضه ويرعى حقله ويروى غلة شقوقه العطاش فلا أحد يدري متى جاء وماذا فعل ومتى رحل وكيف انتقل وقفل؟

حتى وضعه أهل قريتنا وأكنافها فى مصاف أهل الخطوة وأولياء الكرامة والفراسة السمحة…وفى ليلة من ليالي شتاء عام ١٩٣٦رحل شيخنا إلى جوار ربه فمات راكعًا ساجدًا فى موضع مصلاه المعهود بقرية أبي عيد ودفن حيث قبض وقُبر حيث سجد لله وربض ومن ثم قام أهل تلكم القرية ببناء قبة موشاة فوق قبره؛ إقرارًا بكراماته وعرفانًا بنفحاته، ومايزال ضريحه القائم فى تلك البقعة المباركة من ريف أكناف ديرب نجم يتحدى عوارض الزمن ونكبات الدهر وللأسف لم تعد الأجيال المعاصرة من أبناء المنشية و(أبو عيد) تذكر الاسم الكامل والنسب الفاضل للشيخ؛ إذ يتداول الشباب المحدثون اسم هذا الضريح فيما بينهم بالشيخ حسن.!!.ولا يدرون نسبه وعترته التى تنتسب فى أصلها المبارك إلى آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم..ولا يعرفون أن صاحب القبر كان فى شرخ شبابه رجلاً صافوريا ثريًا قد ركن إلى الزهد والورع فى منتصف عمره تاركًا الدنيا وبهرجها وراء ظهره فأمسى وليًا تقيًا

وعالمًا ربانيًا… لقد مات شيخنا وقُبر ولا يستدل له فى أجداث صافوراء على قبر وأثر ولما لا وقبة (أبو عيد )كانت المستقر؟!!

قال تعالى((إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم مافى الأرحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدًا وماتدرى نفس بأي أرضٍ تموت إن الله عليم خبير))صدق الله العظيم.

بقلم راجي عفور ربه

دكتور /أحمد الشربيني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى