إبداعات أدبية

الأديب مدحت ثروت يكتب..رجل رغم أنفه(قصة قصيرة جدا)

 

ورشته متناهية الصغر تعج بالمفاتيح والمفكات وآلات الحدادة ومواتير سن السكاكين ومسن كهربائي، يجلس خارجها على كرسي تهالكت قاعدته من جلسته طيلة النهار وجسده المترهل، أمام طاولة صنعتها يداه من بقايا الحديد الصديء، يستطيع ابدال الباطل بالحق، وصدأ الحديد بقطعة ديكور رائعة الجمال، يلتقط نظارته ذات العدسات السميكة؛ ضعف نظره لم يفقده بصيرته لكنه اتجه بها إلى حيث تسحبه أهواؤه، كحجر مجعد حفرت تجاعيد الزمن طرقها على وجهه، جرفه التيار إلى عمق سحيق بعيدا عن نظر الناظرين، دس يده في جيبه وأخرج مفكا صغيرا يلتقط به المسامير الرفيعة وقبل أن يبرم مسماره برم شاربه الذي رش الكبر عليه مشيبا تماوج بين الأبيض والأصفر القاتم وتمتم بصوت لا يكاد يسمع: تفضل بالجلوس، فجلس زبونه بكرسي له ثلاثة أرجل لم يفتك يصلحه حتى هوى بالرجل وهو يرقص مقطوعة من بحيرة البجع، نهض خجلا ونفض غبار السخرية التي طالته من اصبع قدمه إلى هامة رأسه، أحكم العجوز المغامر قبضته على المقص الميت وفتح ذراعيه فطاوعه ولسان حاله يقول: هاكم الألم كي يسعد الحلاق الفقير، سن حديه فتطايرت عبراته الساخنة شرارا يكاد يحرق بدلته القديمة وثقبت جيبه الداني من قلبه الجامد، ثم عاد ليغلق حدي المقص الملتهب، اطربته قعقعته كسيف الناصر في صدر المعركة، أومأ لصبيه براسه فهرول الطفل لكومة المعدات والتقط زجاجة زيت صغيرة وضع منها قطرات شفافة باحت بخطوته التالية، سيأتي بخرقة بالية يكفكف دمعة المقص المحترق ويهديه لصاحبه ويأخذ منه المال… أدمعت زجاجة الزيت، وفي آخر مبارزة بين حدي المقص قطف أنملة تشققت من سنوات الحديد التي سكنت قلبه، لم ينطق ببنت شفه، اه مكتومة قالتها عيناه ودماه قد خضبت السلاح الساخن حين ابتسم الحلاق الهزيل قائلا: لا يفل الحديد إلا الحديد.

مدحت ثروت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى