آراء حرة

الدكتور أحمد محمد الشربيني يكتب.. مقامة((الأيزو))

 


حدثنا شفيق بن سلمبوحة، سليل حي سموحة الذي يعمل بالقطاع البترولي بإحدى دول الخليج العربي المطلة على المحيط الهندي، أنه تدبر، وفكر ثم عزم وقرر أن يمكث في البيت ، تراكًا عمله بشركة تكريرالزيت!!

 ولما سألته في عجب عن الباعث والسبب، أجابني بصوت كسير يصدر من زير:أخي الحبيب اللغوي الأريب:لقد بُليت في قسمي التعيس بحاسد قد فاق إبليس اسمه (ميزو) يعمل بقسم الجودة مع المهندس (عزو) لذا حاز لقب (الأيزو)، عينه قد فلقت الحجر، لاتخطئ ولاتزر فلا منجا منها ولاوزر!!! فكم من سيارات عُطلت وإطارات فُرقعت وشُيعت!! وكم من مطابخ أحرقت ووجبات أُفسدت وأُتلفت وآوانٍ تفحمت فأهملت!! وكم من أجهزة أُخرست وخُرِّبت!!

وآهاتٍ وإصاباتٍ صُنفت..وعُددت!!!

فما من موظف بالشركة إلاوبه طعنة وَعكة أو سقطة دِكة أو زحلقة سِكة أو كدمة لكمة أوضربة عَركة أو زُرقةلَسعة أوصفرة سَفعة…..!!فترى في الموظفين والموظفات عاهاتٍ سبع فمنهم الموقوذة والنطيحة والمتردية وما أكل السَّبع!!

ثم أنشدني :

إذا حل الثقيل بأرض قومٍ

***فما للساكنين سوى الرحيل!!

هنا لاح الحسودُ بسهم فتكٍ

***فما للصامدين سوى القليلُ!!

فضحكت باستخفاف من فرط هذا الإسفاف؛وقلت يا صديقي لاعليك..!!! رحم الله والديك..!!! لا تقبعنَ في البيت ودعك من كيت وكيت!!!

فنحن – يازميلي الأمين – في القرن الواحد والعشرين، وخل عنك هذه التراهات والخزعبلات وأوهام الأطفال والجدات، وهات ما عندك من خبر الثقات…!!! واستوضحته عن الأمر، فأخذني على الفور حتى انتهينا إلى مسكنه بالحي القديم، حيث يقطن و يقيم بصحبة حاسدِه اللئيم.

ولما دخلنا بيت الزملاء الأخلاء، التقينا بقية الرفاق والأصدقاء وتجاذبنا الحديث والنقاش في غياب هذا الشَّتيمِ الرشاش!!!

وتعجبت وقتها من هيئتهم وبؤس منظرهم؛ فوجوههم نحيلة مصفرة كليلة، فحياني الأول وسلم ثم تنحنح وتكلم: معك “أبوعمرة” قاهري يقطن في غمرة أعمل مهندسًا بالشركة العكرة بليت بصاحب الطلة النكرة…. ههنا وفي العمل فلا منجا منه ولا أمل… ثم أشار إلى رأسه بعد أن خلع القبعة، وإذا بها مرقعة بالشاش ومرصعة!!!

فقلت :يرحمك الله!!! ما سبب هذه الجروح و ألغام القروح؟ أكنت تقارع الثيران أم تصارع الغيلان؟ !!!! ثم أفصح لي عن السبب فأنصت إليه في عجب وهو يقول: لقد دخل علي ذو النظرة المُبيرة ذات عصيرة وأنا بصدد إعداد فطيرة وما أن قال قولته الندية الشهيرة:(ماهذا؟!! ) ياللوجبة الشهية!! إلا وقد ارتطمت صلعتي الشقية بحافة أحد الأرفف الخشبية فتهاوت سائر الأطباق والأوعية وأدوات المطبخ المزرية على أم رأسي؛ على إثرها فقدت حدسي وحسي ونُقلت للمستشفى كالمذبوح والدماء والجروح من كل جنس تلوح وتبوح جراء هذا اللوح!!! ذاهلاً عن يومي وأمسي، ناسيًااسمى ونفسي، ولولا عناية الرحمن لكنت في غياهب النسيان، وتلوتم على قبري سورة الرحمن.!!!

ومن ساعتها كلما رأيته يساورني الخوف والقلق فواظبت على تلاوة المعوذتين والفلق وملازمة الأذكار مطلع الصبح وعند الغسق. 

هنالك تبسم صديق آخر يدعى “عبد القادر” قال بصوت فاتر:أما أنا فلي معه صولات وجولات

فقلت: هات ما عندك هات.. فضحك وقال:

لم أكن أومن بالحسد وتأثيره حتى كنت من ضحايا وكيله وسفيره!!ففي إحدى المرات- أثناء الدوام- شاهدني وأنا آكل رغيفين مدججين بالشاورما والإدام فأكثر من العتب والملام:

 (ماهذا)؟!! على رسلك ياأباهمام!!! مالك تأكل كل هذا الطعام؟!! اقتصد في أكلك ياوحشَ الصعيد؛ فكرشك يقول هل من مزيد!!! 

فأصابتني علي الفور قشعريرة، وأدركت أن الأيزو قد أرسل نزيره، وأصابني بسهامه الخطيرة..!!! وكانت آية تلك السهام أن سكتُ عن الكلام و تجشأت العِظام؛ متقيأً جُلَّ الطعام، كل هذا في دقيقتين وما لبث الزملاء أن نقلوني للمستشفى بعدساعتين…والسقام تنوشني من كل حدب وصوبٍ بشتى صنوف الكرب كأنها جحافلُ حرب…ثم أخذت أعالج كحةً زؤام وقعها كوقع السهام تُفزع الموتى قبل النيام!!! وفي قسم العدوى واللقاحات هنالك كانت أم المفاجآت حيث أخبرتني إحدى الممرضات وكانت هندية بنتيجة تحليل المسحة الفيروسية

:ياللعجب!!! لقد وقعت في براثن الملعونة وأمسيت إيجابي كورونة…!!! بدايةأخذت الأمر بمحمل الدعابة وكسر الرتابة لأن الوباء بمصابه وأوصابه قد رحل عن العالم بأطنابه … فدلفت إلى غُرفة المناوب الليلي والغضب يعصف بي… لكن فني التحاليل المصري ذا السمت البورسعيدي هدأ من روعي وهمس في سمعي وأصر بنبرٍ جاد تتقطع منه الأوداج على حقيقة التشخيص بلا زيف أو تخريص، ساعتها أقسمت عليه أن يصدقني القول فأنا لا حول لي ولا طول إن كان هو الآخر يضحك ويداعب لأني لم أشكُ يومًا من أية متاعب؟!!

ففاجأني بتقريره الطبي المُفزع وختمه الرسمي المُقزع ثم حجزني مع المَوتورين على أسرة المُصابين، مكابدًا أعراض كوفيد اللعين طيلة أسبوعين، وظللت في حالة زرية أكابد مضاعافات تلك البلية إلى أن تغمدتني العناية الإلهية بعين الشفاء المَرضية ثم بركة دعاء والدتي التقية!!!

أما الصديق الثالث واسمه “إيهاب” فنظرت إليه في ارتياب إذ كان بوجهه سواد عِتاب كوحمة تشبه الهباب ولماسألته عن سبب هاك المصاب… أجابني بحديث عُجاب فقال:

أنا سكرتير المدير ومسؤل مكتبه النضير من بريد وأرشيف وتصوير وذات يوم مطير اقتحم علي هذا الحاسد المكير وفاجأ المكتب كعادته دون إذن أو نذير؛ طالباً النسخ والتصوير… فأجبته على الفور وأعددت الطابعة لهذا الأمر وما أن قال:(ماهذا) ؟!!! يالها من طابعة جديدة، (ماركتها) فريدة!!! حتى سمعت للآلة حشرجة وصوتًا يشبه تَهشُّمَ (سُكُرجة) بنبوت أهل الفتونة والبلطجة وسرعان ماسَكَتَ سخَّانها عن الطباعة والنسخ وحُشرت أوراقها كفأرٍ لُصِقَ بفخ، ولما حاولت فتحها محاولاً إصلاحها وإنقاذ ما علق بها…إذا بشرر يتطاير كالشماريخ، والأشلاء والمسامير تلوح منهاكبزر البطيخ، وسرعان سرعان ماتحول الشياط إلى دخان أخذ يملاء الأركان ويُضبب المكان!!

فلم أتبين حجرتي الغريرة ولم أشعر إلا بجسدي وقد أضحى كالفطيرة ممدًدا على سريره بقسم الحروق الخطيرة فأدركت ساعتها الحقيقة المريرة وأن وجهي قد رُشِقَ بسهام الأيزو المغيرة!!!

وهاأنذا بعد عملتي ترقيع وعبوس وتجميلٍ بكعِ فلوس ما زلت أعاني من آثار هذا الكابوس جراء قرنيتي ذاك المنحوس اللتين تشبهان قرني الجاموس!!!! 

أما الصديق الرابع المحاسب “ممتاز” فكان جالساً على الأريكة يتدبر الكلمات المتقاطعة وحل الألغاز وبجواره عكاز مادًا إحدى قدميه كرافعةالأوناش وقد اكتنفها الجبسِ والشاش…. فنظر إلي وتبسم بوجه باش وتنهد باندهاش كالناجي من نطح كِباش قائلاً: أما أنا فقد نجوت من دليل الأوباش ميزو البكاش ولولا عناية الله للزمت غرفة الإنعاش…!!!

وقصتي معه أن هذا الإمعة خرج معي وشلة الرفاق الأربعة كي نجوب الآفاق ونستمتع بالعطلة كالعشاق في نزهة بحرية للعب الكرة الشاطئية ناهيك عن الصيد ومغازلة الغيد من ذوات الجِيد!!!

وكان الشاطئ خالي الوفاض على غير المعتاد من قبل الزوار والرواد… فعزمنا على لعب الكرة حتى نستفيق وقسمنا الرفاق إلى فريق ضد فريق… وكان الجميع حافي القدمين مَرضيًا خلا العبد الفقير؛ إذ كنت أنتعل حذاءً رياضيًا… فحدجني بكلتا عينيه وأنا أقف في المرمى بين يديه وقال باستهزاء:(ماهذا؟!! ) هنيئًا لك الحذاء فلن يمسك عَطبٌ أو بلاء؛ فقدمك الغرَّاء تطير على عجل، وستزود عن المرمى بخفي جمل!!!

وماهي إلا لحظات خاطفة وقد ارتدَّت علي هجمة قاصفة فخرجت كالعائم الهائم لملاقاة مُهاجم حطَّ كسيلٍ عارم، وأردت في محاولة يائسة إبعاد الكرة عن العارضة البائسة بيد أن المهاجم الأعمى قد ركل ساقى ركلة نكداء وجدتني إثرها أطير في الهواء كريشة تتقازفها ريح هوجاء في ليلة ظلماء ثم سقطت على الرمال وساقي في أبشع حال ومن فرط الصراخ والألم فقدت الوعى والكَلِم؛ إذ ارتطمت ساقي بكتلة صخرية، وشجت رأسي؛ على وقع ارتطامها بحفرية بحرية بها قوقعة مخفية….!!! فيال تلك اللحظة الشقية!!! 

ثم كان ماكان من حظي النحيس، حيث الشرائح والتجبيس…حتي أن الطبيب نفسه لما عاين الكسور والتهشيما… مزح بقوله: لعلك نجوت من قنبلة هيروشيما!!! 

فلا رعى الله يوماً جمعني بهذا المفاعل البشري ذي اللحظِ الحجري!!!! والأيزو الحصري في الحسد الغجري!!

 فالكرة قد تفشل وتصيب أما هذا فعينه أبدًا لا تخيب!!!

وما هي إلا لحظات ويقرع الباب..!! فانخلعت منا الألباب؛ ظانين ظنَ سوء دفين أن يكون الطارق هو الأيزو اللعين.!! فنظرنا بجفون حاسرة مترقبين على من تقع الدائرة!!! 

وما أن فُتِحَ الباب العتيق حتى هش صديقي “شفيق” لزائره الأنيق، إذ كان المدير العام هو ذاك الضيف الشفيق… فألقى السلام والتحية وجلس بيننا بطلعته البهية… متنهدًا بكل أريحية : الحمد لله الأمور على مايرام وبعد اليوم لن يُؤذَى واحدٌ منكم أو يُضَام فقد رحل (الأيزو) الهُمام لقضاء الإجازة السنوية في أرض الكنانة المصرية… فالحمدُ لله يا رجال على رفع هذا العناء العُضال… ثم أخذ المدير يتجشم ويتحدث عن نوادر هذا الأهتم… فأخبرنا أنه أقسم أن يوصله بنفسه للمطار ولو كان الأمر بيده لأخرجه من قاعة كبار الزوار….. فكم تعطلت السيارة في الطريق دون سابق إنزار لولا أن تغمدتها عناية الحفيظ القهار…!! كما أن المدير أغرق في ضحكة عمياء يفوح من نبرها كوميديا سوداء… فلما سألناه عن السبب… أجابنا بقوله :لاعجب فلقد أمضيت عشرين عامًا بهذا البلد ولم أحصل على مخالفة ولاحسد.!!!.. غير أن (الأيزو) وعينه السنارة التي لا ترحمُ الركبان والمارة بمجرد أن حطت بركته داخل السيارة إلا وقد أوقفني شرطي المرور بنبرة بتارة، وسواد نظارته يكاد يفصح عن شرارة؛ مدعيًا بكل جسارة أنني قد تجاوزت الإشارة، وقحمت طريق المارة…كل هذا وأنا مُذعن بمرارة كطفل يؤدبه شيخ الحارة!!!! وأسفرت تلك المساجلة الكلامية عن مخالفة مالية وهددني كالعادة بسحب رخصة القيادة……!!!

ثم وصلنا إلى المطار وقذفته أمام صالة الانتظار مغلقًا هاتفي متواريًا عن الأنظار!!! فقد شحنته إلى هناك قبل الموعد بساعتين سائلاً الله أن يريح من أشعته الثَّقلين!!!!

فتبسم الجميع وانتعش وفي جلبابه العربي انتفش…. خاصة وأن المدير قدأقسم أن يحتفي بدفع هذا الوباء القسري فهاتف عامل (الدليفري) ليعد عشاءً مصريًا وطعاما حصريًا من الكباب والمشويات وطواجن المحشي والحلويات…!!! وماهي إلا نصف ساعة ويطرق الباب فيهرع صديقي ومن خلفه سائر الأصحاب يسوقهم اللُّعاب وشهد الرضاب؛ كي يستقبلوا وليمة القرن بكل ترحاب في سهرة الأتراب على شرف هذا الثقيل المُغْتَاب!!!

وكنت بمفردي جالسًا على الأريكة أشاهد تلك الكوكبة الفريدة وهي تهرع صوب الباب…. يتقدمهم مديرهم المُجاب!!!!

، وما أن فُتح الباب، حتى طارت الألباب، وضاقت الرِّحاب وقفز الجميع كالسنجاب….بعد أن شُدِهُوا للواقف بالأعتاب؛ فهناك ضيف تحيته شتيمة، صلعته رجيمة، طويل القامة عظيم الهامة ذو كرش ممتدٍ أمامه فتعوذ الجميع “من كل شيطان وهامة وكل عين لامة” بعد آل على نفسه الوخيمة أن يحضر تلك الوليمة قائلاً:

ما هذا الطعام المنتظر؟!! لِمَ كل هذاالركام من اللحم والكباب المُفتخر؟!! أليس هذا من الإسراف ياغجر؟!! ثم أغمد لسانه الشرير لما وقعت عينه على نَظَّارة المدير وقال بنبر يسحر الألباب :أيهاالأحباب لقد استلمت تلك الأطياب من عامل الدليفري قبيل طرقه للباب…ولعكم تتعجبون من حضوري المرتاب!!! عمومًاأبلغني أحدالمضيفين بمفاجأة تسر الناظرين وتطرب زملائي الجالسين؛ فبمجرد دخولي بوابة المسافرين، وسؤالى عن الموعد المرتقب لرحلة مطار برج العرب، وأثناء نظري في الساعة، أُبلغت عبر سّماعة الإذاعة بتأجيلها لأربعٍ وعشرين ساعة…..فيالعجائب القدر الوسيع!!!! ألاَّ أسافر قبل أن أودع الجميع…. وأشرف بوليمة مديرنا البديع الأستاذ عبد السميع!!!!

فسقط في يد الحضور وإمامهم فغُم وجههم وامتقع لونهم وظلوا صامتين واجمين يتوسطهم (الأيزو) السمين بأنيابه العِظام وهو يلتهم الطعام ويقضم العِظام ويتنفس الكلام، يتساقط من فمه (الجاتوه) اللذيذ ودهن الشواء الحنيذ وعلى شفتيه أصباغ لاتُرام من الكاتشب والكِريما و الإدَام…. ولسان حالهم يقول في مَلام كمن ينتظر حبل الإعدام:

تبًا له من ثقيل

***دمًا وروحًا وطِينةْ

لو كان من قومِ نوح

**لما ركبتُ السفينةْ!! 

_____________

تأليف الشاعر الدكتور/

أحمد محمد الشربيني

دكتوراة في علم اللغة والدراسات السامية والشرقية-كلية دار العلوم جامعة القاهرة.

______________

ملحوظة:هذه المقامة أحداثها وأشخاصها من خيال الكاتب وأية تشابه مع قصص حقيقية فهو محض صدفة؛ نظرًا لوجود هذا النموذج البشري( الحاسد) في كل عصر وأوان و مكان وزمان.

                          الكاتب:د. (أبو وهاد) الشربيني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى