آراء حرةعبد الحليم قنديل

عبدالحليم قنديل يكتب.. عرب العالم الآخر

عبدالحليم قنديل يكتب.. عرب العالم الآخر
عبدالحليم قنديل يكتب.. عرب العالم الآخر 

تعتبر “العالم الآخر” فى العنوان ينطوى على إشارات متداخلة ، فقد ينصرف إلى سكنى “العالم الآخر” بالمعنى الدينى والوجودى ، ولدى العرب ما يكفى ويفيض من ملايين الضحايا الذاهبين غيلة ، من العراق إلى سوريا واليمن والصومال وليبيا وغيرها ، وأغلبهم فقدوا الحياة الدنيا بغير قضية مشروعة وبلا ذنب منظور ، فيما غامت عيون العرب من جماعات الحكم والتأثير الثقافى والاقتصادى ، وعاشوا فى “العالم الآخر” المنقضى بالمعنى التاريخى والسياسى ، وانقطعت صلاتهم بتفاعلات الدنيا الجارية بعد حرب أكتوبر 1973 ، وكان آخر ما عرفوه وقيل لهم ، أن واشنطن هى كعبة العالم ، وهو ما تضاعفت سوءاته بعد انهيارات موسكو الشيوعية أوائل تسعينيات القرن العشرين ، وباتت عقيدة الحكام العرب على تنوع الموارد الاستبدادية ، أن 99 بالمئة من أوراق العيش فى يد أمريكا ، زادها بعضهم إلى مئة بالمئة ، وهو ما يزيد من ارتباك من بيدهم الأمر غصبا ، مع انكشاف التوازنات الجديدة الحاضرة على القمة الدولية ، ودخولنا إلى “العالم الآخر” المتدافع بأماراته اليوم وفى الغد .

   وكالنائم يفتح عينيه بعد طول الغياب ، تفيق جماعات حكم عربية من ذهول “أهل الكهف” ، وتفاجأ بما جرى ويجرى من انقلابات على خرائط الكرة الأرضية ، كشفتها “حرب أوكرانيا” ، ولم تخلقها من عدم ، فالعالم الذى غادره هؤلاء قبل نحو نصف قرن ، وكانوا يفهمونه ويفعلون فيه إلى حد ظاهر ، كان قد وصل إلى حصيلة تطور بعينها ، وإلى صورة منقسمة مستقطبة بين شرق أوروبى اشتراكى وغرب أوروبى أمريكى رأسمالى ، وآلت القيادة فى الأخير إلى واشنطن بعد ما يسمى بالحرب العالمية الثانية ، وكانت وقتها ، قد انفردت بتجريب سلاح الرعب الذرى لهزيمة اليابان العنيدة ، وخرجت من الحرب بمشهد قوة لا مثيل لها ، كانت الولايات المتحدة تملك وقتها أكثر من نصف اقتصاد العالم ، واصطنعت لنفسها صورة المسيح “المخلص” من داء ناهش أصابنا مع غيرنا ، راكمته حقب إذلال استعمارى متطاول القرون ، مثلته امبراطوريات احتلال أوروبى المنشأ ، رجحت كفته مع سقوط “غرناطة” واكتشاف الأمريكتين عام 1492 ، ومع الكشوف الجغرافية وحيازة السبق العلمى والاقتصادى والتقنى ، بدا الغرب الأوروبى بعدها كأنه سيد العالم ، ولم يكن ما تبقى من العالم وهو أغلبه ، فى آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، سوى عبيد الأسياد وركام المستعمرات ، فيما تمددت امبراطوريات الغرب ، وصار بعضها كالإمبراطورية البريطانية ، مما لا تغيب الشمس عن أملاكه ، بينما جاهدت حركات التحرر الوطنى بما فى وسعها ، وزادت فرصها مع التشاحن والتنافس والحروب الأوروبية الأحدث ، وصارت كل حرب أوروبية المنشأ ، كأنها حرب “عالمية” بالفرض والادعاء وغلبة السيادة الغربية ، لكن مآسى الحربين المسميتين “عالميتين” ، الأولى والثانية ، فتحت قبور الزوال للجبروت الاستعمارى القديم ، وكان لحركات التحرير الوطنى فى منطقتنا نصيب مما جرى ، فقد دخل عالم المستعمرات شريكا فى قسمة الأدوار العالمية ، وكانت “حرب السويس” 1956 عنوانا فارقا ، أنهى وجود الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية ، وأثبت حضور العرب فى دنيا جديدة وقتها ، انتقلت من زمن “سيادة الغرب” إلى عصر “تحدى الغرب” ، حتى بعد دخول واشنطن بالاستعمار الجديد كطرف غربى أهم ، ودعمها لكيان الاحتلال الإسرائيلى المزروع قهرا بين ظهرانينا ، وإلى أن جرت حرب 1973 بنصرها العسكرى الأكيد ، وبالسياسة المفرطة التى أعقبت النصر ، وخذلت معنى انتصار السلاح ، وسلمت راياتها لواشنطن ، التى كانت خرجت مهزومة لتوها من حرب فيتنام ، وهكذا تركت جماعات الحكم العربية سياسة “تحدى الغرب” إلى التسليم بطاعته فى المنشط والمكره ، وإلى حيازة أمريكا التامة لأوراقنا ومفاتيحنا وبترولنا تباعا ، بينما كان العالم الذى عزلنا عنه ، يمشى فى دورة تاريخية متعاقبة المراحل ، وينتقل حثيثا من عصر “تحدى الغرب” ، وإلى ما قد تصح تسميته “عصر تجاوز الغرب” ، وامتلاك ذات قوته المادية والتقنية ، وبدت الظاهرة المستجدة ممتدة من شرق عالم المستعمرات القديمة إلى مغاربها ، من شرق آسيا إلى تفاعلات ومخاضات أمريكا اللاتينية ، بينما ضاع العرب والأفارقة عموما فى غيابات “الجب” و”قعر القفة” ، خصوصا بعد ما بدا خادعا من سيادة أمريكا المطلقة على المصائر والأقدار ، مع فوزها فى الحرب الباردة ضد موسكو ، ومع “أحادية قطبية” بدت محجوزة لواشنطن ، وتوالت آثارها دامية مهلكة فى منطقتنا بالذات ، من توحش الكيان الإسرائيلى إلى حروب أفغانستان والعراق ، فيما كانت سباقات الدنيا الجديدة تمضى فى الاتجاه المعاكس ، وتعيد توزيع قوى السلاح والاقتصاد والتكنولوجيا ، وتتقدم من الشرق الجديد إلى مواقع أمامية مؤثرة ، بلغت ذروتها مع صعود الصين الصاروخى المتصل منذ أوائل ثمانينيات القرن العشرين ، وتحول “بكين” إلى عاصمة لنهوض المهانين من سبات تاريخى طويل ، دفع بإلهامه إلى صحوة روسية عسكرية بالذات ، وإلى عودة للثأر مما لحق بموسكو من إذلال ، ثم بدا أن الشرق الأوروبى الروسى الناهض مجددا ، يمد صلاته عبر “أوروآسيا” إلى الصين ، وإلى عناصر نهوض متزايد فى غرب آسيا ووسطها وجنوبها ، من الهند وماليزيا وأندونيسيا وفيتنام إلى إيران وتركيا فى جوارنا ، وجعلنا فريسة سهلة مفضلة للقادرين القدامى والجدد ، فيما بدا مستقبل العالم رهينا بما يجرى فى الجغرافيا “الأوروآسيوية” بالذات ، تماما كما توقع ” بريجنسكى” مستشار الرئيس الأمريكى الأسبق ” كارتر” لشئون الأمن القومى ، وانتقل بندول الحركة والإلهام شرقا ، وتوسع مداره مع منظمات “بريكس” وشنجهاى” و”بنك التنمية” وصيغ التعاملات المالية والتجارية المناوئة لهيمنة الدولار، فيما يخوض الغرب معركته الأخيرة فى الميدان الأوكرانى مع الشرق الجديد ، المتحالف فى “علاقة بلا حدود” بين روسيا والصين ، وقد صعدت الأخيرة إلى عرش العالم الاقتصادى ، وباعتراف “صندوق النقد الدولى” نفسه فى تقرير صدر قبل أكثر من شهر ، خلصت إحصاءاته إلى ارتقاء الصين إلى المرتبة الأولى بمعايير ومقارنات القوى الشرائية ، وجاءت بعدها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى بمسافات متباعدة ، فيما بدت القوة الروسية العسكرية المضافة سندا لحضور الصين العسكرى والنووى والفضائى المتنامى ، وهكذا تتشكل صورة “عالم آخر” زاحف ، فيما ظلت جماعات الحكم العربية فى عوالم الغياب .

   ومع تزايد حدة أصوات مطارق العالم الآخر الجديد ، بدت جماعات حكم عربية ، كأنها تستيقظ فى تثاؤب ، وتصحو على وقع ارتطام السيادة الأمريكية الكونية الموهومة بالأرض الصلبة للحقائق الجديدة ، وبعجز أمريكا المرئى عن توفير الحماية للنظم التابعة ، وبأنانية واشنطن المتراجعة اقتصاديا ، وابتزازها المتزايد حتى للحلفاء والتابعين الأوروبيين ، وفرضها أسعارا فلكية لإمدادات الطاقة البديلة عن موارد الطاقة الروسية ، ودوس اقتصادات وشعوب أوروبا المنهكة ، وتوالى تساقط حكوماتها بالهياج والغضب الاجتماعى المتفاقم ، بينما لا تعدها أمريكا بشئ ، سوى بالمزيد من صفقات بيع السلاح ونشر قواعد قنابلها النووية ، وإذا كانت هذه تصرفات واشنطن مع الأقربين تاريخيا وثقافيا ، فما بالك بسلوك الاحتقار والزراية الأمريكية للتابعين العرب ، ومع الصدمات الثقيلة الجارية ، بدا شئ من التمرد الملموس لعدد من جماعات الحكم فى أهم العواصم العربية ، خاصة تلك التى تملك تأثيرا مشهودا فى عوالم الإمداد بالطاقة ، وتوالت قرارات عربية تغضب واشنطن ، من قرارات “أوبك بلس” بالتعاون مع روسيا ، إلى انفتاح متزايد لعواصم عربية أخرى على روسيا والصين ، برغم لجوء الرئيس الأمريكى “بايدن” إلى تحذيرهم فى قمة الرياض قبل شهور ، ودعوتهم إلى تحالف عسكرى علنى بعد التطبيع مع كيان الاحتلال الإسرائيلى ، وهو ما وجد كثير من الحكام العرب فيه حرجا ، خصوصا مع صحوة الشعب الفلسطينى الجديدة ، وتوالى تضحيات وصمود “انتفاضة الشهداء” المتجددة فصولها ، ومن دون أن يقرر الحكام المعنيون وجهتهم الأخيرة ، فلا تزال أثقال التطبيع ضاغطة على حناجرهم وقراراتهم ، ولا يزال بعضهم يراوده أمل فى انتصار أمريكا بالحرب الأوكرانية ذات الطابع العالمى ، وأن تعود “ريمة” إلى عادتها القديمة ، وأن يعود الولاء لأمريكا وحدها كتابا وسنة ، وهذه الحالة من المراوحة فى المكان نفسه ، يبدو تفسيرها ظاهرا ، فجماعات الحكم العربية سمعت متأخرة بالعالم الآخر الجديد ، لكنها لم تعايشه ولم تدرك معناه عقلا وقلبا ، ولسبب جوهرى ، هو حالة الانقطاع الفعلى الطويل والغياب الذاهل ، والتأخر المرعب عن ثورات العالم الصناعية والتكنولوجية والعلمية ، إضافة للطابع التسلطى الجهول بالطبع ، وإدمان البقاء فى أحوال “عرائس الماريونيت” ، التى تحركها أصابع خفية عند أطراف الخيوط ، مع ضعف الانتساب إلى حالة عربية جامعة ، كتلك التى كانت قائمة بين هزيمة 1967 ونصر 1973 ، والتى جرى فيها توزيع وتقاسم الأدوار فى خطة مشتركة ، وحد فيها العرب عدوهم ، ثم غامت الرؤية بعدها وغابت ، وتبدد الجمع فى متاهة الغياب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى