آراء حرةمانشيتات

في كليات الإعلام سمٌّ قاتل !

بقلم الدكتور / أيمن منصور ندا

منذ أربع سنوات، سألتني ابنتي الكبرى، وقد ظهرت نتائج الثانوية العامة، وحصلت على مجموع كبير يؤهلها للالتحاق بإحدى كليات القمة العلمية منها والأدبية: ما رأيك في كليات الإعلام؟ تبسمتُ ضاحكاً من قولها، وأجبتها متحسراً: اختيار خاطىء؛ ونصيحتي الابتعاد عنها.. والاختيار لك، والأمر إليك.. وقد كان.. واختارت كلية أخرى علمية وعملية.. هذا الأسبوع، ظهرت نتائج الثانوية العامة، وسألتني ابنتى الصغرى السؤال ذاته.. وكررت إجابتي بثقة.. ووقع الاختيار للمرة الثانية على كلية أخرى علمية وعملية.. ولأن السؤال غير شخصي، والإجابة ليست خاصة، فقد رأيت أن أذكر لكل طلاب الثانوية العامة الذين يرغبون في الالتحاق بكليات الإعلام أو بأحد أقسامها ومعاهدها، أسباب رفضي لها.. ونصيحة المجرب من ناحية، والطبيب من ناحية أخرى، أقول لكل راغب في دراسة الإعلام: احذر؛ في كليات الإعلام سمٌّ قاتل!

 

عشرة أسباب يمكن الإشارة إليها والاستناد عليها في هذا الحكم، أكتفي هنا بالإشارة العابرة لها وبالإجمال، وإن كان بعضها يحتاج إلى تفصيل وإسهاب..

 

أولاً: إنَّ ممارسة الإعلام بشكل احترافي لا تحتاج إلى أربع سنوات دراسية كاملة؛ المقررات الأساسية، والمعلومات الجوهرية، والممارسات ذات الصلة بالعمل الإعلامي لا تحتاج إلى أكثر من سنة دراسية، يمكن دراستها بعد التخرج بشكل شخصي، أو عن طريق الالتحاق بأحد مراكز التدريب الإعلامية، وهي كثيرة ومنتشرة..

 

ثانياً: إنَّ مناهج كليات الإعلام ومقرراتها الحالية قد يعجبك شكلها، وقد تجذبك أسماؤها، ولكنها خواء.. هي مقررات قد قلَّدت مثيلتها العالمية في التعريف والتوصيف، ولكنَّها أبعد ما تكون عن المضامين الحقيقية، ودراسة كثير منها غير مفيد..

 

ثالثاً: إنَّ الإعلام في جوهره علمٌ بينيٌّ؛ ودراسة الإعلام بمفرده، مثل المشي على ساق واحدة، أقرب إلى الحنجلة.. الإعلام السياسي من الأفضل أن يقوم به من لديه خلفية دراسية وعملية سياسية، ويصقل ذلك بدراسة الإعلام.. والإعلام الاقتصادي الأفضل أن يمارسه من لديهم خلفيات أكاديمية مناسبة، وتدريب إعلامي جيد بعد ذلك.. الإعلام هو مرحلة التغليف والتسويق من مراحل صناعة أي منتج؛ لها أصولها وفنونها، غير أنَّها ليست العامل الحاسم في الإقبال على البضاعة أو تقييمها؛ المهم جودة البضاعة، وحسن المنتج.. وليكن بلا تغليف بعد ذلك..

 

رابعاً، ومن منظور عملي، فإنَّ مجال الإعلام ليس حِكراً على دارسي الإعلام وليس قَصراً عليهم.. مجال العمل الإعلامي مفتوح، والأفضلية فيه للموهوبين وليس للدارسين، ولمن استطاع إليه سبيلاً.. والمنافسة في سوق العمل قد لا تكون في صالح الذين يتخرجون من هذه الكليات..

 

خامساً: إنَّ سوق العمل لا تحتمل كلَّ هذا العدد من خريجي كليات الإعلام وأقسامه ومعاهده.. لدينا ست كليات حكومية، وكليتان تابعتان لجامعة الأزهر، وعشر أقسام في كليات الآداب، وأربعة عشر قسماً للإعلام التربوي، وما يزيد عن عشر كليات إعلام خاصة، ومثلها معاهد حكومية وخاصة، إضافة إلى كليات الإعلام في الجامعات الدولية، والأهلية.. عدد الخريجين منها يقترب من ثلاثين ألفاً كل عام؛ تحتاج سوق العمل منها إلى أقل من نصف بالمائة فقط..

 

سادساً: إنَّ سوق العمل الخارجي لم تعد كما كانت سابقاً.. كل الدول العربية أصبح بها كليات إعلام دولية، ولديها فائض من خريجيها المتميزين.. خريجو كليات الإعلام المصرية لم يعد مُرَحبَّاً بهم في كثير من هذه الدول.. معايير الجودة لدينا لم تعد كما كانت.. ونسب الاعتماد لديهم على خريجي الجامعات المصرية انخفضت انخفاضاً كبيراً..

 

سابعاً: لو كان لي الاختيار في الوقت الحالي، ولو استقبلتُ من أمري ما استدبرت، لكانت الكليات ذات الطبيعة المهنية اختياري الأول.. سوق العمل مشبع بخريجي الكليات الأدبية.. نحتاج إلى ثورة حقيقية في طرق تفكيرنا بشأن مفهوم الشهادة الكبيرة.. الشهادة الحقيقية هي الشهادة التي تستطيع من خلالها أن تفتح بيتاً، أو تدر عليك دخلاً يكفيك ذلَّ السؤال، أو مهانة البطالة.. كليات الآداب، والإعلام، وكثير من الكليات الأدبية لا تضمن ذلك..

 

ثامناً: في الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا، وفي الجامعات الدولية المحترمة، لا يتخصص الطالب في فرع واحد؛ يتخرج وقد اختار تخصصاً أصليَّاً (ميجور) ، وتخصصاً آخر فرعيَّاً (مينور)، وقد يكون له أكثر من تخصص فرعي؛ كأن يتخصص في الإعلام والاقتصاد، أو في الفيزياء وعلم النفس.. على الطالب أن يتحسب لتغيرات سوق العمل ولمفاجآت التوظيف.. تخصص الإعلام كتخصص مستقل ووحيد غير مضمون حاضراً ومستقبلاً..

 

تاسعاً: فإنَّ كليات الإعلام وأقسامه ومعاهده تخلو حالياً من الأسماء اللامعة التي أضافت للإعلام قديماً جاذبيةً وألقاً وثراء.. جيل الرواد ومنهم الأساتذة محمود عزمي، عبد اللطيف حمزة، إبراهيم إمام، إبراهيم عبده، خليل صابات، سامي عزيز جيد، مختار التهامي، فاروق أبو زيد، جيهان رشتي، لم يأتِ بعدهم من يعيد للإعلام ألقه وعمقه.. المسافة بين هذه الأسماء والأجيال التي أتت بعدهم بينها سنوات ضوئية كثيرة..

 

عاشراً وأخيراً: فإنَّ المسافة بين النظرية والتطبيق في مجال الإعلام بعيدة جداً في وطننا العربي، ومن الصعب تجسيرها في المستقبل القريب؛ حيث إنَّ البيئة العربية لا تسمح بالتطبيق الاحترافي للإعلام كما يتم دراسته؛ فما فائدة أن تدرس شيئاً ليس هناك مجال لتطبيقه؟

.

المصدر: (الأهرام: 2 أغسطس 2023).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى