عبد الحليم قنديل

دكتور عبدالحليم قنديل ورطة “الناتو” الأوكرانية

 

 

  حتى لو حدث ما لا يبدو قريبا ، ووافق “مجلس النواب” الامريكى على دفعة الستين مليار دولار الإضافية لدعم أوكرانيا ، فلا يبدو أن مهمة “الناتو” فى أوكرانيا قابلة للنجاح ، لا فى تفكيك روسيا كما كانوا يقولون أول الحرب التى دخلت عامها الثالث ، ولا حتى فى ردع انتصار الروس الذى تراكمت ملامحه ، فقد انتقل الروس فى الشهور الأخيرة من التقدم العسكرى إلى ما يشبه الحسم العسكرى ، وتوالت انتصاراتهم التكتيكية المتلاحقة فى منطقة “الدونباس” بالذات ، وفى مقاطعة “دونيتسك” على نحو أخص ، وصار الخبر الذى يأتى كل يوم تقريبا ، أن تسقط قرية أو بلدة جديدة فى يد القوات الروسية ، وبطريقة القضم التدريجى النشيط غرب “باخموت” وغرب “أفدييفكا” ، التى كانت معركتها شبيهة بمعركة “باخموت” وقبلها “سوليدار” ، وقد كانت مفارم لحوم بشرية ، لعب دور البطولة الصاخبة فيها “يفجينى بريحوزين” قائد “فاجنر” الراحل عن الدنيا محترقا بطائرة الرحلة الغامضة فى أواخر أغسطس 2023 .

  وقد كانت الحرب من بدايتها عالمية الطابع ، تواجه فيها روسيا تحالفا مكونا من 54 دولة معادية ، حتى ولو لم تعلن الأطراف المعنية حربا مباشرة ، واختبأت وراء قناع دعم أوكرانيا ، وتمكينها من ردع الزحف الروسى المعلن فى 24 فبراير 2022 ، وتطور الدعم المعلن من صواريخ “جافلين” و”ستينجر” وراجمات “هيمارس” حتى صواريخ “ستورم شادو” و”سكالب” و”أتاكمز” البعيدة المدى ، وطائرات “إف ـ 16” المنتظرة قريبا ، ولم يقدر الروس للخطو موضعها عند أول تحرك ، وبدت القوات الروسية على حال من الاستهتار وضعف التنظيم والإمدادات اللوجستية ، عندما زحفت إلى العاصمة “كييف” ، وكاد امبراطور “الكرملين” أن يغلق الملف ، بعد بوادر تراجع أوكرانى فى مفاوضات “اسطنبول” المبكرة ، وكاد خطأ الحساب العسكرى والسياسى الروسى ، أن يغرى واشنطن وجماعتها فى حلف شمال الأطلنطى “الناتو” ، وأن يبشرها بأن هزيمة روسيا صارت ممكنة وأقرب من طرف الإصبع ، وبالذات بعد انسحاب قوات موسكو من حول “كييف” ، ثم انسحابات القوات الروسية اللاحقة من مقاطعة “خاركيف” أواخر عام 2022 ، التى لحقها انسحاب روسى طوعى من بعض مقاطعة “خيرسون” غرب نهر “دنيبرو” ، وبدا المشهد مع نهايات 2022 ، وكأن الروس وقعوا فى فخ الفصام بين المعلن والواقع ، فقد كانت موسكو قد أعلنت رسميا عن ضم المقاطعات الأوكرانية الأربع (دونيتسك ولوجانسك وزاباروجيا وخيرسون) ـ إضافة لشيه جزيرة القرم السابق إلحاقها ـ إلى أراضيها أواخر سبتمبر 2022 ، بينما كان الوضع على الأرض مختلفا جدا ، وبالذات فى مقاطعة “دونيتسك” ، التى ظلت غالبية مدنها وقراها بيد الأوكران ، ومن دون إحداث اختراق جدى ، اللهم إلا فى مدينة “باخموت” التى تكلفت السيطرة عليها دماء كثيرة ، دفع أغلبها مقاتلو جماعة “فاجنر” غير الرسمية ، ومن قلب المأزق العسكرى ، ولدت الاستدارة الروسية ، حافظ الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” على عنوان العملية المقيدة ظاهريا ، وظل ينعتها باسم “العملية العسكرية الخاصة” ، لكنه تصرف عمليا مع ما يجرى بروح مختلفة ، وبدا كأنه يعلن حربا دون تصريح ، وتجنب قرار التعبئة العامة ، لكنه ضاعف عدد القوات العاملة بأوكرانيا عبر طرق أخرى ، أهمها فتح باب التعاقد مع وزارة الدفاع على مصراعيه ، وزاد عديد القوات الروسية المعنية على مثيلتها الأوكرانية ، مع نجاح القيادة الروسية فى تجاوز مصاعب عقوبات اقتصاد غربية ، ظلت تتوالى حتى بلغت نحو 18 ألف عقوبة ، تصورت واشنطن وتوابعها ، أنها ستخنق الاقتصاد الروسى ، وأنها ستصيب الآلة العسكرية الروسية بالشلل ، وهو ما حدث عكسه بالضبط ، فقد استوعب الاقتصاد الروسى تراجعا محدودا فى البداية ، لكنه تحول إلى نمو ظاهر فى عام 2023 ، وإلى قفزات كبرى فى إنتاج السلاح والذخائر ، زادت أضعافا على مجمل الإنتاج الغربى ، وهو ما خلق معادلة جديدة فى الصدام العالمى تحت النووى بالميدان الأوكرانى ، فقد جازفت دول “الناتو” بكل ما تملكه من سلاح متطور ، ومن تحالف الدبابات إلى تحالف الصواريخ والطائرات ، وبدا أن روسيا قد استعدت لحرب تطول أعواما ، بينما زحفت عوارض الإنهاك فى عواصم الغرب ، مع الإخفاق التام للهجوم الغربى المضاد ، الذى بدأ فى أوائل صيف 2023 ، ونجح الروس فى صده ثم فى محوه تماما ، بل تحولوا إلى هجوم عكسى فى أواخر 2023 ، استمر مع الشهور الأولى لعام 2024 ، وسيطر الروس على مدينة “ماريينكا” ثم على مدينة “أفدييفكا” الأهم ، ثم على عدد متزايد من البلدات فى غرب وجنوب مقاطعة “دونيتسك” ، ومن دون نجاح للطرف الآخر فى استنساخ خطوط الدفاع الروسية الشهيرة باسم “خطوط سوروفيكين” نسبة إلى الجنرال الشهير “سيرجى سوروفيكين” ، فخطوط الدفاع “الأوكرانية” يجرى تفكيكها والالتفاف عليها ومواصلة القتال فى دوائرتفتيت متداخلة ، والقوات “الأوكرانية” تسارع بالانسحاب إيثارا للسلامة ، والقيادة “الأوكرانية” تتخبط فى هزائمها المتسارعة ، وتزيح القائد العام الشهير لقواتها الجنرال “فاليرى زالوجنى” ، وتحل الجنرال “ألكسندر سرسكى” ، الذى كان يفضل الموت على الانسحاب وقت معركة “باخموت” ، فأصبح جنرالا مدمنا على قرارات الانسحاب ، مع تعليق جرس الاتهام فى رقاب مرؤوسيه من قادة الفرق والألوية والكتائب .

  وكما القاعدة التاريخية العامة ، فإن النصر له ألف أب ، بينما الهزيمة مسكينة يتيمة ، فقد سارعت كل الأطراف المتحالفة ضد روسيا بتقاذف الاتهامات ، قادة “الناتو” يحذرون من دوران عجلة الأيام الصعبة ، ويلقى أغلبهم اللوم على قادة الجيش الأوكرانى ، وعلى تفشى الفساد فيه وفى القادة السياسيين ، وقد أضاعوا قيمة أحدث الأسلحة الغربية ، وركام دعم أوكرانيا بمئات المليارات من الدولارات واليوروهات ، بينما الرئيس الأوكرانى “فلوديمير زيلينسكى” يطلق صرخته الأخيرة ، ويعلن أن انتصار روسيا خزى وعار على الغرب كله ، ويطلب المزيد من أسلحة الدفاع الجوى والصواريخ بعيدة المدى ، ومن دون أن يذكر ، أن كل ما طلبه ذهب إليه ، وتساقط ودمر تباعا على يد الأسلحة الروسية وذخائرها وصواريخها التى لا تنفد ، وأجيالها الجديدة الانتحارية من الطائرات المسيرة ، خاصة الطائرة المسيرة المعروفة باسم “لانست” ، إضافة لطائرات الهيلكوبتر من طرازات “كاموف” ، وتزايد أدوار القاذفات الروسية المتقدمة فى الميدان ، وبما جعل الدبابات الغربية المتقدمة “تشالينجر” البريطانية و”ليوبارد” الألمانية و”أبرامز” الأمريكية ، تنفجر فى الميدان كحديد خردة ، وتسقط أساطير مزاياها الفائقة بالجملة ، وهو ما دفع عواصم الغرب إلى كشف أوراقها المخفية ، على نحو ما ذهب إليه الرئيس الفرنسى “إيمانويل ماكرون” ، ودعوته لإرسال قوات غربية رسمية لقتال الروس فى أوكرانيا ، وهو ما سارعت إلى نفيه وزارة الخارجية الفرنسية ، وقالت أن “ماكرون” كان يقصد إرسال قوات خاصة ، وكأنها تعترف بوجود قوات فرنسية بالفعل على الأراضى الأوكرانية ، إضافة لعشرات آلاف المتعاقدين المنضمين للفيالق الأجنبية ، ثم جاءت العاصفة مع التسريبات الألمانية ، التى نشرتها “مارجريتا سيمونيان” رئيسة تحرير شبكة “آر . تى” الروسية ، ومدتها 38 دقيقة ، حوت تسجيلا صوتيا حرفيا لقائد سلاح الجو الألمانى وعدد من كبار الضباط ، ودارت حول إرسال صواريخ “توروس” الألمانية إلى أوكرانيا ، وبيان نقص مقدرة الضباط الأوكران على تشغيلها ، وضرورة إرسال ضباط ألمان لإطلاقها من الأراضى الأوكرانية ، وتكرار ما فعله البريطانيون والفرنسيون مع إرسالهم صواريخ “ستورم شادو” و”سكالب” ، وهو ما وضع المستشار الألمانى فى حرج بالغ ، فهو يعلن رسميا امتناعه عن توريد صواريخ “توروس” ، بينما هو يعترف بعد وزير دفاعه بصحة التسجيل الروسى ، ويعد بالتحقيق فيه ، وزاد الطين بلة ، مع اعتراف ضابط ألمانى فى التسجيل المذاع ، أن صواريخ “توروس” غير جاهزة للتشغيل أصلا ، وهو ما أطلق موجة من الذعر فى الدوائر الغربية العسكرية ، التى ترتعب من نجاح روسيا فى إعادة بناء شبكات تجسس متقدمة فى معاقل وزارات الدفاع الأوروبية والأمريكية ، وإلى حد حذر معه “جون كيربى” ـ المتحدث باسم مجلس الأمن القومى الأمريكى ـ من دور روسيا فى زرع بذور الشقاق بين حلفاء “الناتو” ، وما قد يبدو مؤكدا أن روسيا ومخابراتها لديها تسجيلات أخرى أخطر قد تذيع بعضها فى قابل الأيام ، وتقدم أدلة واعترافات مباشرة على حجم التورط الغربى فى حرب أوكرانيا ، فقوات وخبراء “الناتو” موجودون من أول يوم فى الحرب ، ويديرون العمليات فى الميدان ، إضافة لدور “ستارلينك” وخدمات المئات من الأقمار الصناعية المدنية والعسكرية الغربية ، وانفضاح ذلك كله وغيره بوثائق وتسجيلات مسربة ، يزيد من ورطة “الناتو” وتابعيه ، ويجعل الهزيمة من نصيب الرئيس الأمريكى لا الرئيس الأوكرانى وحده ، ويعجل بانزياح الهيمنة الأمريكية المنفردة على مصائر العالم ، مع انكشاف ضعف مقدرتها حتى على التحكم فى سلوك الحلفاء والتابعين .

[email protected]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى