صلاح سلام

دكتور صلاح سلام يكتب....أم سمير

كانت تسكن على ناصية شارعنا في بيت كبير يطل على شارعين وتتوسطه اشجار الزيتون وانواع اخرى واحيانا بعض الزراعات الموسمية كالذرة النيلي التي كنا نشويها ليلا وفي احد زوايا الدار جراج كان يضع فيه العم عبيد زوجها رحمه الله سيارته النقل وبعدها ابنه سمير سيارته الميكروباس وتشغل غرف المعيشة جزء اقل من ثلث مساحة البيت ام غرفة الفرن ومشتملاته فهي الاوسع على الاطلاق في بيوت شارعنا والذي شهد صولات وجولات من الخبيز الى الكعك والبسكويت في ليالي العيد…كان يحلو لنا السهر على ضي القمر في وسط الدار فقد كانت احدى البنات زميلة لاختي في الدراسة وتوأمها مع زميلة اخرىونظرا لان بيتنا ليس فيه غيري وامي..فلامانع ان يقضيا ليلتهم بعد المذاكرة مع كوثر رحمها الله واظل انا في مكاني ايضا في هذا البيت الواسع وتأخذني غفوة النوم في براح ساحة البيت تحت النجوم الى الصباح…فقد كانت الحاجة ام سمير طيبة القلب ضاحكة الثغر بشوشة الوجه ذات صوت خفيض لم اراها يوما غاضبة ولم يسمع احد لها صوت عبر السنين برغم كثرة العيال وتحبني كاولادها وانا احبها كأمي فهي صديقتها حيث كانت تحضر معها اجتماع العصر وهو الاجتماع البومي الذب يعقد كل يوم في احد البيوت حيث القهوة وربما بعض المعجنات المنزلية و الذي يضم معظم سيدات الشارع وان كانت مقلة في الحضور لانهن جميعا من الارامل اما هي كانت تنتظر زوجها ولاتنضم الى مجلس الادارة الا عندما يكون مسافرا او في زيارة…ومرت الايام وكبرنا وسافرنا الى الجامعات ولكن الوصل لم ينقطع وظلت المودة قائمة فاصدقاء اختي كانوا لي كالمحرمات احبهم كحبي لها حتى بعد ان توفاها الله احب ان اراهم فهم من رائحتها فقد فارقتنا مبكرا وكانت توأمي في الحياة…منذ الصغر تبكي اذا بكيت وتفرح اذا فرحت وظلت كذلك الى ان سمعت صوتها في التليفون قبل وفاتها بساعة بعد ان نهش المرض الخبيث كل جسدها… وفي يوم ما دخلت الى عيادتي في العريش الحاجة ام سمير حيث كنت في تلك الفترة مابين العريش والقاهرة وكانت قد تعافت من اثر ازالة ورم في المخ …وقالت لي ان الاطباء قرروا ان اجري عملية استئصال الرحم وانا جايالك علشان تعملي العملية..فاسقط في يدي ..فهي قد تجاوزت السبعين تقريبا ولديها مشاكل طبية وهي ايضا صديقة المرحومة امي واحبها ايضا بنفس القدر وهي اخر من تبقى من هذا الجيل…المهم اني قررت ان اصطحبها معي الى القاهرة وادخلها مستشفى النسا بالدمرداش خوفا عليها من مصاعفات التخدير واجريت لها العملية بصحبة احد الزملاء وانا اضع يدي على قلبي..ويشاء الله ان تتعافى وتعود سالمة الى منزلها العامر لتزورني في منزل العريش وهي تلبس ملايتها السوداء والتي تخلى عنها كل هذا الجيل محملة بالهدايا وقد مضى على هذه الواقعة اكثر من خمسة عشر عاما…وكنت حريصا كلما زرت العريش ان اطمئن عليها اما من احفادها اذا لم لم يسعفني الوقت او ان ازورها فانا مازلت في نفس الشارع واتعجب انها تعرف عني الكثير وانني مرضت واجريت عملية وسافرت الى الخارج واجريت جراحة..وانها من المؤكد كانت تعرف ذلك اما من احفادها او ابنائهافكانت تبرني بالدعاء وانا مقصرا في حقها فاحيانا بالزيارة واحيانا بالسؤال وكانت اخر زيارة لي منذ اكثر من ثلاثة شهور وجلست معها قليلا وكانت تشكوا لي ما انتابها من امراض الشيخوخة التي هاجمتها واصرت ان اجلس لاشرب القهوة ..وشاءت الاقدار ان يكون اخر لقاء فقد رحلت امس الحاجة ام سمير ..اخر اصدقاء امي الحاجة وهيبة”ياسمين”، رحلت اخر ذكرى كانت تربطني بهذا الشارع وايام لايمحوها كل ما استجد من عمارات ومحلات وسيارات تصطف على جانبه لم تكن في حسبان ايام الطفولة…رحلت الحاجة ام سمير التي لم استطع ان احبس دمعتي عليها وانا اقرأ الخبر على صفحة ابنتها صديقة اختي…رحلت الطيبة التي لن تتكرر ..واحد اقطاب الجيل الذي يرمي حموله على الله ولا يحسب لدنيانا اي حساب …رحلت اخر ضحكة بريئة في شارعنا العتيق..وعندما هممت اكتب نعيا على صفحتي فانساب دمعا من خلائقه الكبر…فاكملت مقالا لو كتبته بمداد ربما لم نرى له معالم فقد اختلط الحبر بالدموع وكأني انعي امي من جديد…سلاما لروح الحاجة وهيبة وسلاما لروح الحاجة ام سمير وكل جيل الاطهار ماتعاقب الليل والنهار

 

 

دكتور صلاح سلام يكتب….أم سمير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى