آراء حرة

دكتور أماني فؤاد تكتب..القبو( قصة قصيرة)

استيقظ سكان المدينة القديمة على قرار ملزِم، نُشر بجريدة الدولة الرسمية، اتَّسعت ‏العيون، وجحظت مستنكِرة، وَرَدَ بالمنشور حتمية حفْر قبْو لكل فرْدٍ يخطو فوق هذه ‏الأرض، ويلتزم كل شخص بتحديد مكان قبوه، وتخطيطه الهندسي ومساحته، لم يكتفوا ‏بهذا، بل وإثبات عدد درجاته، وقياس امتدادها لأسفل، وتعداد محتويات القبو ووصْفها، ‏وأن تُرفع هذه البيانات للجهات المختَصَّة، ومَن لم يلتزم بالتنفيذ، وتقديم البيانات؛ ‏سيتعرَّض لعقوبات ينظِّمها القانون.‏

شرَع الكثيرون يحفرون في أقبيتهم مستاءين؛ خوفًا من العقوبات. وتساءل البعض: لماذا ‏قبو لكل فرد، وليس لكل بيت أو أُسرة؟ لكنهم لم يجدوا مَن يُجيبهم كعادة قيادات الدولة ‏القديمة.‏

تهرَّب البعض من الحفْر، أو الالتزام بالقرار، وانتظَروا مَا ستتكشَّف عنه الأيام، تساءلوا: ‏ترى ما عقوبة مَن لم يلتزم بتنفيذ هذا الأمر العجيب؟

بعد مرور الأشهر الخمسة، المدة التي حددتها السُّلطة للتنفيذ، بدأت لجنان الجَرْد في ‏تقصِّي الأقبية، ورصْد محتوياتها. يحكي المراقبون إنه منذ نزولهم على الأدراج؛ وجدوا ‏العجب العجاب، ذكروا إن لكل قبوٍ فرادةً لا تشاكِل قبوًا آخَرَ، لكلٍّ رائحته، بعضها زكي ‏ومنعِش، والأكثر منفِّر وعفِن، بعضها مضيء، والأكثر معتم. الأهم والأكثر خطورة؛ أنهم ‏وجدوا كميَّاتٍ بلا حصر من الأسلحة، مدافع رشاشة حديثة، آر بي جي، قنابل يدوية. ‏كانوا كلَّما توغَّلوا في سراديب كل فرد؛ اندهشوا من حجم الأسلحة المدجَّجة، المخزنة ‏والموجهة في وضْع الإطلاق المباشر. وصَف رئيس اللجان الحالة بقوله: “اكتشفنا قدْرًا ‏من أسلحة الدمار الشامل، والتي تفوق قُدرة أعتى الجيوش المصنَّفة عالميًّا. أضاف: ” ‏وجدنا في عدد من الأقبية – التي تجاوزت أصابع اليدين – قنابلَ نوويَّة، هذا عدا عِدة ‏آلاف من أسلحة الكيماوي، التي بإمكانها أن تبيد مُدنًا بكاملها”. كما شاهدنا في جُلِّ ‏الأقبية أعضاء تناسلية مبتورة، بعضها ينزف والأكثر قد تيبس، وأثداء نساء بلا حصر، ‏مقطوعة ومُلقاة.” ‏

تعجَّبت إحدى الموظفات، ضمن اللجان الراصدة؛ دوَّنت: إنه في بعض الأقبية المحدودة ‏للغاية، هالها حجم الأزهار، التي نبتت بين الأحجار، والنباتات التي شغلت مساحة القبو ‏بكامله، ذَكَرَ آخَرُ: إنه وجد بحرًا وطيورًا وزرافاتٍ، وقال أحدهم: إنه رصَد نهرًا وقواربَ ‏وأسماكًا. كما جاء في التقرير، قول المراقبين: في معظم ما دخلنا؛ وجدنا صورًا ذاتية ‏كثيرة، لكل صاحب سرداب، بعضها معلَّق على الجدران، والآخَر ملقًى على الأرض، ‏تكسوه الأتربة. المدهش أن أكثر الصور ناطقة، حيث تتحرك الملامحُ وتنبعج الشفتان؛ ‏تتضخَّمان دون صوت، بعض الوجوه تخرج عن إطار الصورة، وتمضغه.‏

‏ بعد خمسة أشهر تالية، كان قد تم ضبْط الذين رفضوا أن يحفروا أقبيتهم، ونُفِّذت فيهم ‏أحكام القضاء، بعضهم تولَّى بعض المناصب الحساسة، وآخَرون تم قذفهم في بعض ‏البراكيين اليقظة. المذهِل في الأمر؛ التوصيات التي ذَكَرها مجموعة الباحثين في عِلم ‏النفس والاجتماع، فبعد أن أحيلت لهم نتائج الرصد. وَرَدَ في تقريرهم: “ننصح بأخْذ ‏شريحة عرضية عميقة من أرض الدولة، تبعد عن السطح بعشرة أمتار على الأقل؛ حيث ‏ستُصبح تلك العينة محلَّ دراسات موسَّعة.” كما وَرَد في التقرير تساؤل مهم اجتمع عليه ‏الباحثين: “كيف لهذا الكائن البشري أن يكون بعضًا من روح الله؟” قالوا أيضا: “علينا أن ‏نعيد تحديد ماهية أنفسنا، ما الإنسان!؟”‏

في دولة أخرى بعيدة عن الأولى القديمة، طفا على سطح النهر – الذي يتوسطها – ‏مجموعاتٌ من الثعابين والعقارب القاتلة، أفاعٍ وسموم بلا حصر. حين استطلع الناس ‏الأمر؛ وجدوا أن قرارًا مشابهًا – لِما نُشر بالجريدة الرسمية في المدينة القديمة – كانوا قد ‏أصدروه هنا منذ ما يقترب من سنة ونصف، يقول الراصدون إنهم لم يجدوا أية نباتات أو ‏طيور وزرافات. ‏

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى