توب ستوري

دكتور أحمد محمد الشربيني يكتب..سيرة برنس المعلمين الأستاذ منصور محمد محمد عبد العال عبادة

 

 نعيش اليوم مع فارس نبيل من الرعيل التربوي الأصيل التقيته عدة مرات في سن الصبا والشباب كما كان جارًا لنا بحارة منزلنا القديم

ولما انتقلنا للمقام بمنزلنا الكائن الآن شمال البلدةكان رحمه الله جارًا لنا نراه كلما سعينا وتنزهنا. 

 تجله إذ التقيته وتكبره وتعظمه إذا سمعته كان وجيهًا نزيهًا ذا وجه سينمائي يطاول عمالقة الزمن الجميل أمثال سليمان نجيب بيك وحسين صدقي تعجب بأناقته ورقته وتسعد بحديثه وبساطته

فلا تنم ملامحه الشركسية وتقاسيمه الشامية عن مكنون حقيقته الندية التقية وأصالته العربية ودمائه القومية إنه معلم الأجيال التقي المفضال الأستاذ منصور محمد عبد العال. 

   (نسبه وحياته الأسرية والتربوية) 

ينتسب عالمنا الجليل إلي عائلة عبادة إحدى كبريات عائلات كفر الغنيمي بمركز منيا القمح تلكم العائلة التي تمتد فروعها حتى قرية الرحمانية التابعة لمركز أبو كبير وقد هبط الجد الأكبر لعالمنا الجليل مركز ديرب نجم برفقة شقيقيه؛ جراء تضييق المحتلين الإنجليز ومن والاهم من الخواجات وكبارالإقطاعيين الخناق على فلاحي منيا القمح فنزل الجد الأكبر محمد عبد العال بصافوراء أواخر القرن التاسع عشر أما شقيقه الثاني فاستوطن كفر أبو بري وأقام بها وتزوج وتناسل وتفرعت أسرته أما شقيقه الثالث فنزل بقرية المنا صافور وبها استقر وتزوج وأنجب وصاهر. 

وكان الحاج محمد عبد العال الملقب (بعبادة) رجلاً نزيهًا وجيهاً جاء بزوجته من مسقط رأسه وأنجب منها ولده محمدًا تخليدًا لذكراه بعد وفاته كعادة فلاحي هذا الزمان ولما شب نجله عن الطوق شرع في مساعدة والده ووالدته فعمل في مستهل شبابه مقاولاً للأنفار تلك المهنة المربحة التي كانت تتطلب منه جمع الفلاحين والمآجرين وشحنهم في عربات تجرها الخيول أو الحمير لأجل العمل لدى الإقطاعيين في موسم الحصاد أو وقت شتل الأرز أوفي فترة تنقية القطن من دودة القز أو عندالقيام بشق الترع وتجسيرها أوتمهيد الطرق ورصفها؛ فكم كانت الأيدي العاملة عصب الحياة الزراعية في مصر مطلع القرن المنصرم قبل أن تنتشر الآلات الزراعية ووسائل النقل البري في مرحلة الثلاثينيات لكن الحاج محمد عبد العال أضناه التنقل بعماله من إقطاع لإقطاع ومن وسية لأخرى وآلامه تبعات تلك المهنة التي قد تضطره للسفر بعيدًا عن القرية والمكث خارجها عدة أشهر فآثر الاستقرار بصافوراء والتفرغ لحياته الأسرية فصاهر آل الطباخ ليكمل نصف دينه، وتزوج من الحاجة أمينة منصور يوسف الطباخ شقيقة الأستاذ عبد الرؤوف الطباخ، كما ابتاع حقلاً زراعياً بالقرية و ظل يعمل بالفلاحة حتى وفاته وقد أسفرت تلك الزيجة عن ستة أبناء حيث أنجب من عقيلته نجله الأكبر الحاج إتمام الدين ثم نجله عبد الشافي ثم ابنته الحاجة زنوبة ثم أم محمد ثم نجله الأثير الأستاذ منصور (١٩٣٤م) وأخيرًا ابنته بشرى عبد العال. 

وكم اعتنى الرجل بتربية أولاده الست وتحفيظهم كتاب الله

ومن ثم أرسل نجله منصور للشيخة لظيمة فودة؛ كي يحفظ القرآن على يديها وكان له ما أراد ، حيث أتم الفتى حفظ القرآن كاملاً وفق أحكام التجويد على يد الشيخة الجليلة في وقت قياسي نظرًا لتوقد ذهنه وسرعة بديهته، ثم التحق بصافور الابتدائية المشتركة (البرعي)؛ حيث تتلمذ على يد أساتذتها الأجلاء أمثال الشيخ فهمي بحيري والشيخ سليمان شلبية وما أن أمضى ثلاثة أعوام في صافور الابتدائية حتى اصطحبه خاله عبد الرؤوف إلى الصعيد؛ إذ كان وقتها يعمل مدرسًا في إحدي مدارس أسيوط فأمضى منصور حولين كاملين بها لكن الفتى شاقه الحنين لبلدته حيث والديه وأخوته ولداته وزملائه فضج بمقامه بعيدًا عنهم وضاق ذرعًا بلهيب شمس الصعيد وقسوة المغترب البعيد فرضخ الخال لمطلب نجل اخته وأعاده إلى مسقط رأسه حتى يكمل الشهادة الابتدائية بها

أما الخال فظل يعمل معلمًا بأسيوط ومدارسها ردحًا من الزمن حتى انتقل فيما بعد للشرقية ليشغل وظيفة سكرتير الإدارة بإدارة ديرب نجم التعليمية وظل بهاحتى انتهت رسالته التربوية؛ نظرًا لبلوغه سن المعاش ثم توفي بعد عشر سنوات من تقاعده- رحمه الله- عام١٩٨١م

ونعود للفتى منصور الذي انتقل للسنبلاوين حيث ظفر بالشهادة الإعدادية ومن ثم يمم وجهته صوب عروس الدقهلية حيث التحق بمدرسة المعلمين العليا ولماتخرج في معلمين المنصورة مطلع الخمسينيات عمل أستاذًا بمدرسة الضواهرية للتعليم الأساسي التابعة لمركز الحسينية ثم انتقل لديرب نجم حيث مدرسة المنا صافور الابتدائية في اواخر الخمسينيات ومنها إلى صافور الابتدائية المشتركة (البرعي) ليعمل ضمن كوكبة عمالقة صافوراء من أساتذتها الأجلاء أمثال الأستاذ محمد أحمد عامر والشيخ سيد أحمد اللبان والأستاذ عبد الفتاح بحبح والأستاذ عطية حسين عافية والأستاذ صفوت عافية والأستاذ محمد جمعة والأستاذ صبري حسين عافية والأستاذ عبد الرحمن عافية والأستاذ محمد مصطفى بدر والشيخ إبراهيم عبد الهادي والشيخ عبد اللطيف عثمان والشيخ عبد الغني الإمام والشيخ أحمد خاطر وكان مدير المدرسة آنذاك الأستاذ محمد البحراوي.

كما اسُتدعى عالمنا لحرب اليمن فمكث في القاهرة عدة أشهر قضاها بمركز التدريب لكنه لم يسافر وقتها حيث فدته وظيفته التربوية إذ حالت دون لحاقه بالقوات المنقولة جوًا إلى اليمن السعيد، أما زوج أخته الشهيد صبري محمد البربري فقد سافر مع القوات المصرية؛ ليقضى نحبه في صنعاء جراء الحرب الأهلية اليمنية.

وبمرور الأيام وتوالي الأعوام

رقي أستاذنا المنصور عام ١٩٦٩م فشغل مقعد نظارة مدرسة (أبو حريز) التابعة لكفر صقر ثم عاد أدراجه لإدارة ديرب نجم التعليمية ليشغل منصب النظارة بمدرسة عودة سالم عام١٩٧٠م ثم عين مديرًا لمدرسة طحا المرج عام ١٩٧٥م ومالبث أن أعير إلى اليمن السعيد في مستهل عام ١٩٧٨م برفقة الأستاذين الجليلين: عبد المنعم أنور و محمد السيد الوصيفي

-رحمهم الله- وعقب عودته من الإعارة عين ناظرًا بمدرسة الجواشنة للتعليم الأساسي ثم عاد إلى قريته صافوراء في مستهل الخمسين من عمره ليعمل ناظرا بمدرسة الإمام محمد عبده ثم انتقل إلى طحا المرج ليشغل منصب الإدارة المدرسية وبعد عامين عاد إلى قريته صافوراء ليختم حياته التربوية الحافلة مديرًا لمدرسته الأثيرة مدرسة صافور الابتدائية المشتركة (البرعي) وظل بها حتى توقف قطار رحلته الوظيفية عند محطة التقاعد لبلوغ سن المعاش عام١٩٩٤م

وبدأ الرجل يتفرغ لتربية الدواجن وشيد مزرعته الملاصقة لمنزل العائلة الحالي حيث اشترى قطعة أرض عقب انتهاء إعارته لليمن وخصصها فيما بعد لحلمه الاقتصادي فكم كان شغوفًا منذ شبابه بتربية الطيور الداجنة

إذ اعتاد أن يذهب بصحبة صديقيه الأثيرين :الأستاذ محمد الوصيفي والأستاذ عبد الفتاح بحبح إلى الفيوم خصيصًا لابتياع الكتاكيت ومن ثم نمت لدى الأصدقاء الثلاثة فكرة اقتناء مفارخ يدوية تمكنهم من توفير متطلباتهم من الصيصان والكتاكيت وتكفيهم مؤنة قطع مئات الكيلومترات من أجل تحصيل أفراخ التربية حيث كانت المفرخة الواحدة آنذاك بحجم موقد الغاز المنزلي.

وظل الرجل يتعهد تربية الدواجن بالمزرعة رفقة أبنائه الأربعة

كما كان يزور أصدقاءه سواء من رجالات التعليم أومن خارج السقيفة التربوية، فيلعب الشطرنج مع الحاج عامر محمد عطية عامر أما صديقه الشيخ أحمد محمود الزيات فكان يقارعه في لعبة الطاولة كما كان يألف أحاديث السمر مع صديقه الحاج أبو ياسر محمد علي سليمان البحراوي

واستمرت رحلة الجد والعطاء حتى أصيب بداء السكري فاعتل جسده ووهنت صحته حتى لقى ربه في الثاني عشر من إبريل عام ٢٠٠٠م

*****سجاياه الخلقية*********

١-لقد كان الرجل جميل الخِلقة أصيل الخُلق تحلى بشمائل شتى عمادها التقوى والورع ولم لا وقد حفظ القرآن على يد الشيخة لظيمة فودة؟!! ولم لا وقد كان والده محباً للقرآن وأهله؟!! فأكسب ولده النزعة الإيمانية التي وطنت أستاذنا على مكارم الأخلاق التي دعا إليها ديننا الحنيف من صدق وسخاء وبذل وعطاء وصبر ورضاء وأمانة في تعهد النشء وتربية الأبناء.

وكم كان- رحمه الله-يستمع في خشوع وتدبر وخضوع لآي الذكر الحكيم لاسيما عندما يصدح بها عبقري التلاوة الشيخ مصطفى إسماعيل ويترنم بها صاحب الصوت الباكي الشيخ محمد صديق المنشاوي أوقيثارة ديرب نجم الشيخ عبد الوهاب إبراهيم السيد(نحرة) الذي أوصى قبل وفاته بأن يقرأ في عزائه عصرًا ومساءً لكن حالت ظروف الرجل دون الحضور رغم توسلات أبناء الأستاذ منصور؛ إذ كان الشيخ وقتها على خلاف حاد مع أحد القراء الشباب

من أبناء القرية فاعتذر بلطفه المعهود وأدبه الممدود وقال قولته المشهورة:”كم يعز على نفسي ألا أهبط صافوراء لإحياء مأتم أبيكم المربي المعطاء لكن لدي ارتباط في ذات اليوم يحول دون تلبية رغبتكم وحلول بلدتكم كما أن لديكم شاباً واعدًا له من الحضور والجمهور مايثير حفيظة أي صييت مشهور ويفوق شيخكم الوقور!!! “

ولله در القول العربي المأثور :”ثلاث لايصلح فسادهن بشئ من الحيل:العداوة بين الأقارب، وتحاسد الأكفاء، والركاكة في العقول” 

٢-الاهتمام بالأناقة وحسن الهندام

فقد كان أستاذنا يحب أن يرى أثر نعم الله عليه

في غير تباهٍ أو خيلاء يرتدي أفخر الثياب والبذلات من أفخم التفصيلات وأثمن المنسوجات وأحدث الموديلات يدفعه طبيعة أصيلة شماء عمادها الإنتساب إلى رعيل من الأجداد الشرقاويين الأصلاء المشهورين بالجود والسخاء؛ لذا كان يرتاد كبرى المحلات في الدلتا والقاهرة ويغشى بنزيون (عدس) و(ريفولي) و(شملا) حتى لقب بوجيه المعلمين فكان يهبط شتاءً لدى ترزي المنصورة وفي الصيف يأتي مدينة الزقازيق حيث الحاج عبد الله الترزي لتفصيل البدلة الصيفية ذات الأكمام النصفية بألوانها الهادئة كزرقة السماء وملمسها الناعم كرقة الحرير والديباج

بل قد دفعته أناقته أحيانًا إلى السفر خارج حدود مصر لجلب معطف أو بالطو عالي الجودة؛ فمما يروى عنه أنه زار مدينة غزة عام ١٩٦٤م بشقيها المصري والفلسطيني قبل نكسة يونيو بثلاثة أعوام

فاستقل القطار هو وزملاؤه في عدة رحلات مدرسية رسمية وأخرى شخصية ترفيهية، فابتاع من غزة الفلسطينية في أحد الأسفار بالطو أسمر كروه ذا خطوط رصاصية اللون، كذلك ابتاع من اليمن الكثير من الجواكت والمعاطف؛ إذ عرف عن اليمنبين ارتداءهم الجاكت فوق الجلباب الأبيض 

كذلك كان يستريح للجلباب البلدي لاسيما المصنوع بأنامل صافورية متقنة أبرعها ما حاكه الحاج الشافعي البيطار – رحمه الله

أما عن القبعات فحدث ولا حرج إذ كان أستاذنا مغرما بارتداء قبعات تناسب المناسبات الرسمية والاجتماعية وكان من سمته اقتناء الكاسكتات الغالية وجلبها من المنصورة والقاهرة والأسكندرية؛ فثمة قبعة للصيد، وأخرى للتنزه ، وثالثة للصلاة، ورابعة للسفر خارج البلدة حيث البندر كما كان يأنس بعصاه الأبنوس التي كانت مطعمة بفصوص ملونة ونقوش متقنة، لكنها للأسف سرقت منه على حين غرة داخل أحد القطارات التي كانت تقله ذات صيف لعروس البحر الأبيض المتوسط

***************

٣-حبه لطلابه وحرصه على مستقبلهم؛ فمما يروى عنه أن أحد الطلاب الفائقين في المرحلة الابتدائية قرر والده الفلاح البسيط أن يحبسه عن الذهاب إلى المدرسة؛ كيما يساعده في أعمال الزراعةوالفلاحة ولاحظ أستاذنا تغيب الطالب المجد بضعة أيام فأرسل في طلب والده لكن دون جدوى، فذهبت الأم بولدها لمنزل الأستاذ منصور والدموع تنهمر من عينيهما واشتكت لأستاذنا ما أزمع عليه زوجها هنالك استشاط الرجل غضبًا وذهب بنفسه إلى الحقل فشُدِهَ الفلاح من حضور الأستاذ الوجيه بطلته الرشيقة وحلته الأنيقة وجزمته البنية الغميقة وتعجب من فرط سيره وسط المزوعات غير عابئ بما يعلق بحذائه من طين وغبارأو يصيب حلته من نهش ونتش جراء فروع الأشجار ولما وقف بين يدي الفلاح هاج وماج وانتفخت منه الأوداج قائلاً:”ياهذا، لماذا أقعدت ولدك عن الحضور؟!!

فقال الفلاح العسر بصوت منكسر :” يامنصور أفندي ليس معي فلوس لتعليم هذا المنحوس… ولدي أورطة من العيال وجيبي يصعب على الكافر لسوء الحال”

 فقال الأستاذ منصور:” ياهذا ولدك من أوائل زملائه وأستشرف له مستقبلاًعظيمًا – بإذن الله-لذا عاهدني لتعيدن ولدك غدًا إلى المدرسة

ولا تبتئس فسأتكفل بالإنفاق عليه مادياً وأعلمه من جيبي الخاص كأنه ولد من أبنائي”

وكان لتلك الكلمات وقع طيب على قلب الفلاح؛ إذ أعاد ولده للمدرسة مرة ثانية، وبمرور الأيام صدقت نبوءة وجيه المعلمين تجاه الفائق المُنتظر حيث صار مهندسًا ملء السمع والبصر

فيالتصاريف القدر!!!!

كما كان حريصًا في إكسابهم مكارم الأخلاق دون من أو اختلاق يشربهم روح العزة والمروءة وينأى بهم عن الذلة الموبوءة؛ فكان شعاره “الجاهلُ يُمكن تعليمه،والجافِّي يُمكن تهذيبه،لكن “الذليل” ..

يتعذر أن تغرس في نفسِهِ 

عزةً وإباءً وشهامة تُلحقه بالرجال..!!

********

٤-الإدارة الحكيمة وقوة الشكيمة؛ فقد أثر عنه – رحمه الله- الحزم والجدية مع التحلي بالحكمة والفطنة سواء في الإدارة الصفية للطلاب أواللاصفية مع معلميهم، فيقوم المعوج ويهذب المقصر ويهدي طلابه إلى سواء السبيل ؛ دليل ذلك مارواه نجله الأستاذ أيمن بأن والده – رحمه الله-وقتما كان ناظرًا لمدرسة طحا الابتدائية حدث خلاف بينه وبين معلم من قرية كوم النور يدعى الأستاذ هلال، ويحكي لنا نجله إيهاب تفاصيل تلك الواقعة حيث كان آنذاك تلميذًا في نفس المدرسة مع والده وأثناء خروجه للمقصف المدرسي وقت الفسحة سمع الجلبة والصياح و اللغط بكل ناح وسار صوب الهيجاء فوجد جمعًا من المعلمين وحشدًا من الطلاب الواجمين يتوسطون أرض الطابور بجوار سارية العلم وظن لأول وهلة أن ثمة شجارًا بين طالبين كالعادة لكن هاله منظر والده الوقور الذي في قلبه فارس جسور وبساعديه قوة ليث هصور مبتسمًا أمام هذا المعلم الموتور وهو يقذع أذنه بأشنع العبارت وأقبح الألفاظ غير مكترث بهيبة ناظره أو غضبة زملائه أو تبعات تطاوله لكن الأستاذ منصور تمثل قائلاً:

وجاهلٍ مدَّه في جهلِهِ ضَحِكي

*حَتّى أتَتْه يدٌ فرَّاسةٌ وفَمُ

إذا رأيتَ نيوبَ الليث بارزةً

*فَلا تَظُنَّنَّ أنَّ اللَيثَ يبتَسِمُ

 ثم نظر إليه قائلاً :”اللهم إني صائم…. ياأفندي عقاب تطاولك هذا سيكون خلال أربع وعشرين ساعة، وأعدك أن تنقل لمدرسة نائية بعزبة قاصية لم تعهدها السيارات ؛ إذ لاسبيل إليها علي خريطة المواصلات ولا مسكن بها يصلح للبيات!!” …ولم يكد اليوم الدراسي يلملم ماتبقى من حصصه حتى أُعلم الأستاذُ هلال قبيل منصرفه عن المدرسة بخبر نقله إلى مدرسة منشية صهبرة لصالح العمل وأن عليه إخلاء طرفه الآن من مدرسة طحا حتى يتسنى له التبكير غدًا إلى مدرسته الجديدة فيخف قدمه ويجهز راحلته ويباشر عمله !!!

فسقط في يدي المعلم الموتور وعلاه الذهول؛ نظرًا لبعد المسافة التي سيقطعها من بلدته كوم النور إلى منشية صهبرة ناهيك عن انعدام سبل النقل التي تصل ما بين البلدتين؛ مما سيضطره إلى امتطاء حمار فجر كل يوم فيفرع الحقول ويتخطى القناطر والجسور ويمضي ساعات طوال في ذهابه ومجيئه!!

 حقيقة في البداية لم يكترث المعلم بتلك العقابيل ولم يأبه بتبعات القرار الوبيل وأخذته العزة بالإثم متصنعاً التحدي والصمود في مجابهة القرار الموعود لكنه لم يقوَ على تنفيذ نشرة انتقاله سوى يومين فقط… وفي اليوم الثالث فوجئ برنس المعلمين بمن يطرق باب داره قبيل انطلاق مدفع الإفطار، فلما فتح الباب إذا به يرى الأستاذ هلال قد مثل أمامه برفقة الأستاذ سامح وكان مسيحياً ذا خلق وأمانة وله في قلب الأستاذ منصور تجلة و مكانة لذا استعان بشفاعة صديقه فتوارى خلفه في انكسار وذلة وتقدم سامح بهدوء وذمة قائلاً:”لقد كنا في مشوار ولما لاحت لنا صافوراء من السيارة أشار علي هلال بأن نشرف بتناول الإفطار معك راجيًا أن تسامحه على مابدر منه بلاعتب وما صدر عنه في لحظة غضب”

ثم أومأ إلى هلال بأن يتقدم نحو ناظره فجاهد في تقبيل يده وحاول بَوْس قدمه استرضاءً له وندمًا منه على ما اقترفه بالأمس القريب. 

فلانت قناة الأستاذ منصور وتناولوا الإفطار معًا لكن الأستاذ منصور أخبره بأنه كي يرضى عنه كل الرضا ويغفر له ما سلف ومضى عليه أن يبكر في الحضور غدًاليعتذر له أمام المدرسة معلميها وطلابها وبالفعل كان المعلم أول الحاضرين إلى أرض الطابور، فاعتذر لبرنس النظار وأخذ يضرب نفسه بالحذاء قائلاً: أنا قليل الأدب وأناابن ستين….!!

وسط ذهول الجميع وضحكهم الهستيري المريع

ثم أذن له الأستاذ منصور بدخول صفوفه حيث اكتشف الأستاذ هلال أن قرار إعادته لطحا كان موجودًا في درج الناظر منذ اليوم التالي…لأن الناظر منصور رأف بحاله ورق لمعاناته منذ اليوم الأول لانتقاله فتواصل مع مدير التنسيق لإلغاء القرار وإعادته دون سابق استفسار… فأدرك وقتها هلال مدى رحمه أستاذنا وسعة صدره وأصيل سمته ونبيل بره

***************

  ٥-الروح الرياضية

فقد كان يمارس الرياضة لاسيما كرة القدم في مركز شباب صافور حتى بلغ الخمسين من عمره وكان يميل إلى تشجيع الترسانة في عصرها الذهبي ولطالما عشق مهارة الشاذلي وحرفنة مصطفى رياض وقذائف بدوي عبد الفتاح وكم كان يثني على أخلاقهم الرياضية لاسيما الصدق والنزاهة ويعتبرهما دعامتي اللعب النظيف وكم كان يذكر أولاده بموقف بدوي عبد الفتاح عندما أحرز هدفًا للترسانة من خلف الشبكة مما أربك الحكم وحامل الراية فتم احتساب الهدف في زمن انعدم فيه وجود تقنية الفار وتعذرت فيه إعادة اللقطات الجدلية في المبارة.لكن بدوي تقدم للحكم وأعلن بكل جرأة و شجاعة عدم صحة الهدف مقرًابأنه قد تم إحرازه من خارج الخط بعيد شبرين من الشبكة الجانبية للمرمى ولأن الاعتراف بالحق فضيلة؛ فقد تم إلغاء الهدف!! 

كذلك تعلم من تشجيعه للترسانه قيمة التضحية ورد الجميل وقت الشدة، وآية ذلك أن كلاً من مصطفى رياض والشاذلي اعتزلا في عام واحد وكانا في أوج عطائهما لكنهما تراجعا عن قرار الاعتزال عندما أضحت الترسانة تعاني من شبح الهبوط إلى القسم الثاني؛ مما اضطرهما للعودة مرة ثانية للمستطيل الأخضر كي يقيلا فريقهما الأثير من التردي الخطير وبالفعل نجحا في إنقاذه من الهبوط وصعدا به إلى بر الأمان فيالأخلاق فرسان ذاك الزمان!!!

ثم مال أستاذنا في أواخر الثمانينيات إلى تشجيع القلعة الحمراء بعد أن غاصت سفينة الترسانة في غياهب الهبوط، وكم كان يميل إلى مؤازرة التوأم حسام حسن وشقيقه وإبراهيم؛ حيث أثني على حماستهما الأبية وروحهما القتالية.

كما اعتاد لعب تنس الطاولة(البنج) سواء في صالة مركز شباب القرية أوحجرة التنس بمدرسة (البرعي) وكم كانت له صولات وجولات مع المحترف الممتاز الأستاذ بازأحمد باز حفظه الله!!

كما كان يألف رياضة المشي ويكثر من التنزه في شبابه فيفرع الحقول الغناء والمروج الخضراء؛ ليملأ صدره بنسيم الريف وينعش روحه بطقسه الوريف

، كما اعتاد الرحلات الشاطئية للمدن الساحلية من لدن راس البر إلى الأسكندرية ليمارس هوايتي السباحة والكرة الشاطئية.

كما كان يألف ركوب الخيل فيذهب خصيصًا إلى صديقة محمود عبد الخالق نجل عمدة (ظفر)التابعة لمركز السنبلاوين فيقضي في دوارهم عدة أيام، يشغلها في ركوب الخيل العربي الأصيل والتنزه به هو وصديقه النبيل وسط عشرات الأفدنة من بساتين الفاكهة. 

*******

٦-التركيز والدقة وذلك؛ جراء شغفه بهواية الصيد إذ اعتاد الخروج بصحبه نجله الأستاذ أيمن لقنص اليمام من فوق أغصان الشجر ببندقية الرش المعهودة وكم كانا يجوسان طرق الترع والمصارف ويطيلان المكوث تحت الأشجار المتراصة فوق الجسور عدة ساعات لاسيما الأكمة القريبة من منزل الأستاذ لطفي باز؛ إذ اعتادا الصيد بتلك المنطقة وكم كانا يتحصلان على صيد وفير من اليمام والجمام فيوزعان أكثره ويبقيان على نذر قليل منه ليأكلاه بصحبه أفراد الأسرة! وقد علَّم أستاذنا أولاده الصيد؛لما فيه من قيم نبيلة،كالصبر والسعي في طلب الرزق والدقة والتركيز والهدوء لتحقيق الهدف كذلك الأمل وعدم اليأس وتكرار المحاولة؛وصولاً للغاية المنشودة.

وهكذا كان يتمثل مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه “علِّموا أولادكم السِّباحة والرِّماية وركوب الخيل”

فجعلها سلوكاً فعلياً ومنهجاً حياتياً. 

**************

٧-رهافة الإحساس والتذوق الفني حيث كان يتقن العزف على الناي باحترافية فنية تضاهي دقة العازف أحمد عفت في حين كان صديقه الأستاذ أحمد شوقي يجيد العزف على العود وكم كانا يتباريان في عزف المقطوعات ومطالع الأغنيات الشهيرات كمطلع قارئة الفنجان لعبد الحليم وكان الناي رفيقه ساعات الألم والحزن فيستأنس به ويناجي فتحاته بأنفاسه الهادئة وكأنها مناظير يطل منها شعوره على آفاق الأمل كما كان يطرب لسماع أساطين الفن كأم كلثوم وعبد الوهاب ونجاة الصغيرة وفريد الأطرش ووردة الجزائرية

وكما كان يهفو لسماعهم ويطرب لأعمالهم فإن ثمة أغنية كان يكره سماعها ويبكي كلما التقطت أذناه مطلعها الموسيقي الذي ينذربكلماتها الأليمة الوقع على نفس أستاذنا؛ ففي عام ١٩٦٨م أحست زوجته الأولي نجلة الشيخ أحمد الباز التي بألم يضرب جنبها الأيمن ويلهب وجعها بقوة فطار بها إلى مستشفى ميت غمر ومكث بها ليلتين؛ إذ ساءت حالتها الصحية فلم تغنِ المهدئات والعقاقير عن المصيبة شيئًا؛ ذلك أن الزائدة الدودية قد انفجرت؛ نتيجة تأخر التشخيص وتباطؤ نتائج التحليل!!! فماتت الزوجة الشابة في الحال وقضت نحبها شهيدةً للإهمال الطبي الذي شاع في هذا الزمن!!!

فحمل الرجل زوجته في نفس السيارة التي أقلته من صافور إلى المستشفى وعاد أدراجه من ميت غمر وما أن وضع جسد المتوفاة في المقعد الخلفي من السيارة

وأدار الحاج أحمد بدر سائق السيارة مفتاح الراديو حتى التقطت أذناه مقطعاً من أغنية فات الميعاد لكوكب الشرق وهي تقول:

فات الميعاد فات الميعاد!!!

وبقينا بعاد بعاد بعاد

حتى أسرع بإدارة مؤشر راديو السيارة إلى إذاعة القرآن الكريم فشنفت آذنهم بصوت الشيخ مصطفى إسماعيل يتلو قوله تعالى:

((‫وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ‬)) 

‫⁧‫فهدأ الزوج وتجشم الصبر وأذعن لقضاء الله عز وجل. 

وقد دفن الأستاذ الشاب زوجته صباحاً وأثناء تشييع الجثمان تناهى إلى سمعه مطلع أغنية حزينة تقول كلماتها:

وقولوا لعين الشمس ما تحماشي 

لحسن حبيب القلب صابح ماشي

لكن الحزن طوفئ ألمه ببارقة مزن عندما تناهى إلى سمع أستاذنا وهو يحمل نعش الوداع بقلب ملتاع صوت المنشاوي يتلو في المذياع قوله تعالى:

 (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) 

هذاولم تتوقف الأحزان عند تلك الفاجعة فقد توفيت والدته عام ١٩٧٣م ثم لحق بها والده فانتقل إلى جوار ربه عام١٩٧٥م. 

**************

٨-الوفاء للأهل والأصدقاء

فقد كان على ود دائم وتواصل قائم مع جد أولاده من زوجته الأولى أم أيمن – رحمها الله- فيزور الشيخ الباز هو وأولاده ولم يطرأ الفتور على ذلك النهج يومًا قط حتى بعد زواجه من زوجته الثانية ابنة الشيخ متولي السواح شيخ غفر صافور رحمه الله. 

حيث كان الشيخ الباز يغشى منزل المنصوربين الحين والحين؛ ليقضي يومًا كاملاً مع أبناء ابنته الراحلة وفي المقابل كان الأستاذ منصور يتردد على منزل حميه الشيخ الباز كلما حزبه أمر فأعيته النصيحة وعنت له المشورة كما كان من عادة الباز التنقل نهارًا لقضاء أحوال العباد والنظر في مصالح البلدة كالمعتاد ثم يمكث في بيته بعيد العصر للنظر في حوائج الناس وحل ما قد يطرأ بينهم من مشاكل عائلية بسبب تبعات الزوجية أو أكل المواريث الشرعية وهلم جرا

كما كان وفيًا لأصدقاء طفوله لاسيما الشيخ هلي الريس الذي يماثله في سنة الميلاد كما كانا زميلين في كتاب الشيخة لظيمة وكم كان يذكر الشيخ الريس – رحمه الله – بخيالات الطفولة ودعاباتها المأثورة 

 فكم كان الريس يغري زميله بتسلق النخلة في موسم الرطب ثم يحصبه بالطوب على سبيل الدعابة وظل المنصور يتحين الفرصة كيما يرد لصاحبه الصاع صاعين حتى ظفر بتلك الفرصة؛ ففي إحدى المرات بعيد منصرفهما من كتاب الشيخة لظيمة مال الزميلان جهة شجيرة توت قريبة من الجسر المقابل للمقابر ثم طلب المنصور إلى رفيقه الريس صعود الشجيرة لالتقاط التوت وما أن استوى فوق أحد أغصانها حتى أخذ المنصور يهز الشجيرة بقوة؛ مما أصاب رفيقه الشيخ الصغير بالهلع؛ فالتوت يتساقط على الأرض ومن قبله حذاء الشيخ وطاقيته البيضاء ومالبث أن بدأ توازنه يختل حتى كاد أن يتردى من فوق الشجيرة على حافة الجسر وظل معلقاً لساعة كاملة من طرف ثوبه إلى أسفل بعد أن علق ذيل ثوبه بغُصين لأحد الأفرع المنبثقة عن ساقها ولك أن تتخيل منظر الصبي الشيخ وهو مشعلق بهيئة مقلوبة فساقاه في أعلى ورأسه تتجه إلى أسفل حيث الأرض الطينية لجسر الترعة ولك أن تتخيل ما قد يحدث ساعة سقوط الصبي الريس لكن المنصور رق قلبه لرفيقه وعاد كي ينقذه من همه وضيقه؛ قائلاً:”كنت أنتوي أن أتركك لتلقى مصيرك يابطل فتغوص رأسك كزرع البصل…فلا تعبث بي مرة ثانية، فوالله لولا جلال القرآن ومهابة العمامة لتركتك تواجه مصير الندامة!!” 

كما كان الرجل وفياً لرفقاء الدرب يتفقد أحوالهم في وصال وحب فكان الأستاذ صادق خاطر يخصص يومًا في غرة كل شهر لتناول الغداء مع الأستاذ منصور وعائلته. 

كما كان المنصور يعتاد زيارةالأستاذ محمد السيد الوصيفي الذي كانت تربطه به علاقة وثيقة بحكم إعارتهما معًا إلى اليمن السعيد كذلك كان يأنس بلقاء صديقه الأستاذ عبد الفتاح بحبح الذي كان بمثابة تؤمه في الأناقة واللباقة و يلازمه كثيرًا في حله وترحاله ولم تقتصر صداقات الرجل على تربوي صافوراء فقط بل تخطتها إلى بلاد بعيدة ولعل أشهر أصدقائه من خارج بلدته كان الأستاذ محمود عبد الخالق ابن عمدة (ظفر) التابعة لمركز السنبلاوين حيث كان بمثابة أخيه الروحي وصفيه النقي ولما لا وهوزميل دراسة ذو وجاهة وكياسة ولخلقه صفاء ودماسة لذا لما مات صفيه محمود حزن عليه حزنا شديدا امتنع بسببه عن تناول الطعام ولزم منزله بضعة أيام حيث كان محمود يأتي من بلدته ظفر الواقعة على طريق إتماي الأمديد لزياره خليله المنصور فيطوي ابن العمدة عشرات الكيلومترات غير عابئ بطول المسافة ومشاق الطريق وكم أتى لزيارة المنصور متطيًا جواده الأبيض أو عبرسيارة يستأجرها يوماً كاملاً لرؤيه رفيق الدراسة وأنيس الود والحماسة… نعم كان ابن العمدة يزور أستاذنا بين الحين والحين لكن المنصور كان يكثر من زيارة صديقه عدة مرات كل شهر متنقلاً بين عدة مواصلات من العربات والحافلات والمطايا والكاريتات فيهبط ظفر ويقضي عند صديقه الليلة والليلتين. 

*********

٩-الرحمه بالحيوان والرفق به؛ وآية ذلك قصته الشهيرة مع كلبه البوليسي(روي) ، فمجرد بناء مزرعته الداجنة القاصية عن البلدة أشار عليه نجله أيمن أن يشتري كلب حراسة يضمن حفظ المزرعة آلاتها وأعلافها وكم كان الجميع في المنزل يعارضون تلك الفكرة حاشا نجله أيمن لكن الحقيقة التي لامراء فيها أن الأستاذ نفسه كان يؤيد الفكرة حيث أطلق لنجله حرية التصرف لشراء كلب الحراسة فذهب علي الفور لمزرعة الحاج أحمد القصاص الذي كان وقتها يقتني سلالة نادرة من كلاب الحراسة تسمى (بلاك جاك) فابتاع واحدًا من القائمين على إدارة المزرعة مقابل سبعة جنيهات فقط ولم يصحب أيمن جروه للمنزل الكائن بالقرية آنذاك لأن زوجه أبيه كانت تأنف من تلك الحيوانات الشرسة فأودع جروه في المزعة وتعهده بالرعاية حتى بلغ طور الكلاب. 

وذات مساء كان المنصور وأولاده يتحلقون حول التلفاز وتصادف وقتها عرض فيلم الشموع السوداء للراحلين: صالح سليم ونجاة الصغيرة فراق أستاذنا اسم (روي) ون ثم أطلقه على حارسه الجديد تيمنًا باسم الكلب البوليسي لبطل الفيلم. 

 وظل الكلب حارساً للمزرعة بصحبه الأنجال الأربعة أيمن وإيهاب وأشرف وأحمد

وبمرور الأيام وتوالي الأعوام كبر الكلب وشب عن الطوق وصار ضخمًا مهيباً وحارساً ليلياً رهيباً. 

ثم انتقلت الأسرة إلى منزلها الحالي الملاصق للمزرعة وشيئًا فشيئًا بدأت الحياة تدب في المنطقة إذ أخذت أفئدة من الأسر تهوي للمنطقة القاصية حتى صارت بمرور الأيام مأهولة بالسكان. هنا قيد الأستاذ حركة حارسه من ذوات الأربع فكان يربطه نهارًا ويطلقه للحراسة ليلاً

وفي إحدى المرات كان أمير حفيد الأستاذ منصور يلعب الكرة أمام فناء منزل جده وفجأة لاح ثور هائج قد هرب من مرتعه وكسر باب حظيرته وما أن اقترب من الطفل الصغير حتى تلقاه جاك فقفز عليه وأمسك برقبته وأحكم عليها الخناق فطرحه أرضاً وكاد أن يفتك به فتك الليث بفريسته لولا أن تداركته يد الجيران وحبالهم فقيدوه ثم ضربوه وروضوه وإلى الحظيرة ساقوه وأعادوه، وكما كان الكلب وفيًا لصاحبه وأهله فقد كان أميناً على جيرانه وممتلكاتهم، حفيظاً على دوابهم ومخازن غلالهم وَحبوبهم

؛ ففي إحدى الليالي الشتوية أخذ الكلب يطيل النباح وإذ به يتوجه نحو حظيرة لمواشي الجيران وكرر الفعل مرة تلو أخرى هنالك فطن الأستاذ أيمن لهذا التحذير فسار وراء كلبه ولما وصل للحظيرة وجد رأس عجل تتدلى من أمها فهرع على الفور وأيقظ جيرانه الذين استطاعوا إتمام عملية الولادة فأنقذوا العجل الصغير وأمه بأعجوبة بعد أن شارفا على هلاك محقق. 

كذلك في إحدى المرات نسى أهل المنزل أن يوصدوا الباب وظلت البوابة مفتوحة على مصراعيها هنالك أبى الكلب الوفي إلا أن يقعي أمام الباب ماكثاً في مكانه حتى الصباح لايعتريه النعاس أو الغفلة ولم يغمض له جفن وما أن لاح شعاع المشرق حتى استيقظ الأستاذ منصور وأهله، فوجدوا كلبهم قد حمي حصنهم وحفظ دارهم. 

كذلك من صور وفائه أن الأستاذ منصور قد وعك فترة طويلة؛ جراء تبعات مرض السكري؛ فظل الكلب ملازماً لشباك سيده ينام تحته طوال الليل ولا يتحول عن مكانه أبدًا وكأنه يقول له بلغة الحيوان لا “تبتئس ياسيدي فأنا رهن إشارتك وطوع أمرك ورهن إشارتك ولن أبرح نافذتك فقط لاتحرمني من رؤياك وطيب محياك”

وما أن نهض أستاذه من فراشه وتنسم وجهه هواء النافذة حتى أظهر السلوك الجسدي (لروي) مظاهر الفرحة والغبطة تيمنًا بشفاء سيده فأخذ ينبح بشكل متكرر ويقفز ويحرك أذنه ويهز ذيله هزة مرنة.

وتمر الأيام ويعتني أهل المنزل بصحة كلبهم غذائياً وصحياً فيأخذوه بشكل دوري للوحدة البيطرية لعلاجه ومتابعة نموه وأخذ الأمصال المناسبة لفصيلته

وذات مرة ذهب أيمن بصحبة كلبه صوب محطة الوقود بعزبة البنزينة وهناك استوقفته سيارة فارهة نزل منها رجل مهيب أشهب ثم عرض على أيمن أن يشتري منه (روي) بمبلغ قدره مائة وخمسون جنيهًا وكان هذا الرقم في أوائل التسعينات يعادل الراتب الشهري لموجه بالتربية والتعليم!!!

لكن أيمن أبى أن يبيع حارسه الوفي للحاج عماد السويدي ولماعاد للمنزل أخبر والده بما كان فأثنى علي مروءته ووفائه.

لكن دوام الحال من المحال 

حيث أصيب( روي) بالجرب القرمي وهو مرض جلدي خطير شديد العدوى وسريع الانتقال إلى الإنسان والفتك بجهازه المناعي؛ ومن ثم رأي معظم أفراد الأسرة ضرورة التخلص منه حاشا والدهم الذي أصر على علاجه لكن الطبيب البيطري أخبرهم أن الحالة ميؤوس علاجها عندئذٍ أزمعوا التخلص منه، فَمنهم من أشار بدس السم له ومنهم من أفتى بقتله رمياً بالرصاص خاصة من قبل دورية القناصة المخصصة من قبل وزارة الصحة بقنص الكلاب العقورة وكان الكلب ينظر إلى عيونهم ويعي ماتنم عنه صدور أصحابها لكنه لايستطيع أن يفتدي نفسه من مصيره المحتوم بعد أن أنهك الجرب جلده وتقلص َما عليه من فراء هنالك رق قلب أستاذنا لحارسه الوفي وأبى أن يلقى جروه مصير حصان محمود مرسي في مسلسل( الرجل والحصان) فطلب إلى أبنائه أن يجهزوا سيارة نصف نقل وبالفعل تحركت السيارة من صافوراء حتى انتهت إلى مدينة بنها هنالك أمر أستاذنا السائق أن يقوم بفتح الصندوق الخلفي للسيارة وبالفعل نزل (روي) بهدوء وتروٍ؛ ظناً منه أنه أتى في نزهة مع سيده وبدأ يتحسس المكان ويلاعب الفراشات واليرقات التي تنسل من بين شجيرات البرتقال اليوسفي، لكنه لم يحول نظره عن قمرة القيادة (الكابينة الأمامية للسيارة) حيث يقبع سيده وسائق المركبة وما هي إلا لحظات وينزل أستاذنا من مقعده ويسير نحو (روي) في وجوم تعلوه سحائب الهموم ثم بدأ يمسح على رأس جروه وكأنه يلقي عليه قبلة الوداع، ثم مالبث أن نزع عن رقبته الطوق وما يتصل به من سلسلة حديدية كم أمسكها أستاذنا طيلة سبع سنوات وكنت تلك أول مرة ينزع فيها طوقه منذ أن تم شراؤه. 

هنالك فهم الكلب بغريزته وطول تمرسه وحاسة شمه ماانتوي عليه صاحبه فاغرورقت عينه بالدموع ومكث في مكانه كالمذهول لايعي ماذا يقول بلغة الحيوان…ولم يقو أستاذنا على النظر في عيني حارسه الوفي فأدار ظهره وأسرع نحو السيارة وهو يحبس دموع الرحمة ويواريها عن السائق قدر المستطاع… وما أن بدأت السيارة تتحرك حتى انتفض (روي) واستجمع قواه عله يلحق بها لكن دون جدوى فقد انطلقت السيارة مسرعة صوب القرية….وألقى أستاذنا على كلبه نظرة وداع معكوسة عبر مرآة السيارة… ولما انهالت منه الدموع تعجب السائق وقال:”أتبكي يا أستاذنا على هذا إنه مجرد كلب أجرب” !!!

فقال:”إنها دموع الرحمة التي أودعها الله في قلوب الأوفياء…. فهذا الكائن كم حرس دارنا وحمى أولادنا واستأنس به أحفادنا وسهر بجوارنا!! ولولا مرضه المعدي ما صنعت به هذا الصنيع” ثم أنشد:

لماذا نرى الكلبَ فيه الوفاء

 *** و فيه الثباتُ و فيه الولاء 

و أمــا ابنُ آدمَ أوبنتُـــــــه

**** فإنهما في الخطايا سواء

وثقتُ بكلبٍ شريدٍ أتانــــي

 **** ليطلبَ بعض بقايا الغذاء 

و لما استجبتُ وأطعمتُــــه

**** و رويتُه بعد هذا بمــــــــاء 

تكلّم ذيلٌ له شاكـــــراً

 ****فقلت: نعم إنّنا أصدقـــــاء 

و حين تأكّــــد أنّي كريم

 ** و أني سمحتُ له بالبقـــــاء 

تقلّد منصبَ حارس بيــــــتي

**** و هددّ من يعتدي بالجزاء 

و رحّبَ بالزائرين جميعــــاً

**** و ويلٌ لمن يستثيرُ العــــداء

و ظلّ و فياً لآخر يـــــــــوم

**** و حين أنادي يجيبُ النداء

و لما مضى سالَ دمعي و ذابت

***حشاشةُ قلبي و غابَ الضيـاء 

و لم يأنفَ الشّعرُ من مدحـــه

**** فكلبي يستحقّ الرثـــاء 

و أما ابنُ آدمَ لما أطعمتُـــه

**** وقلت: أخٌ يستحقّ العطــــــاء 

فلما تخلّص من جوعـــــــه

**** و آنس في بطنه الامتـــلاء 

تحولَ من جائع بائـــــــــس

**** إلى ذئب بر كثير العـــــــــواء 

و عضّ ذراعي التي أطعمتـه

**** فلما رأيتُ نزيفَ الدمــــاء 

تذكرتُ كلبي الوفيّ و هبّتْ **** على نار حزني رياحُ الشقـــــاء 

لماذا ؟؟ يظلّ السؤالُ و تبقى

**** علامته في جبين الصفـــــــــــاء

ثم عاد أستاذنا إلى المنزل وهو لا يقوى على الكلام من فرط ألمه الذي أمض قلبه لفراق حارسه وصديقه ورفيقه وقت ضيقه فظل يبكي في ليلة الوداع عدة ساعات وكم كانت ليلة حزينة خيم فيهاالألم والندم على رب الأسرة المربي الأشم، وحلت الكآبة بأطنابها في المنزل لأيام طوال. 

*******

١٠-روح التحدي والشجاعة في مواجهة المخاطر

ففي إحدي المرات هبط قرية ظفر لزيارة صديقه وكان لديهم إسطبل خيول فراق الأستاذ منصور جواد عربي أصيل وعزم على ركوبه فلبى له صديقه رغبته تلك لكن المنصور من فرط سعادته ركب الحصان دون أن يضع عليه سرجه ثم همزه فانطلق يسابق الريح لدرجة أن جواده سابق إحدى السيارات ولم يقو أحد على إيقافه وظل الجواد يركض قاطعًا الطريق الرئيس الواقع بين بلدتي ظفر وسرعة في لمح البصر والفلاحون في الغيطان يشاهدون هذا الفارس المغوار يمتطي جواده بلاسرج فكانوا يشفقون عليه ويتمتمون بعبارة:”يارب ياستار يارب ياستار نج هذا الفارس المغوار وقه شر السقوط وسئ الأخطار”وماهي إلا دقائق معدودة ويتقنطر أستاذنا من فوق صهوة جواده فوقع على كومة شرب مما نتج عنه كسر لإصبع السبابة الوسطى فانطلق العمدة ونجله نحو ضيفهما بالكارته لعلهما يدركاه وكم هالهما منظر الدماء وهي تسيل من رأس ضيفهما وكان المنصور يظن أن ما يتساقط من رأسه ويسيل علي وجهه هي قطرات عرق أسالتها حرارة الشمس وسطوة الرطوبة لكن العمدة جابهه قائلاً :”بني الحبيب: حصل خير الحمد لله قدر ولطف… يالك من شاب عنيد أتركب هذا الحصان الشريد بلاسرج ولجام من حديد؟!!

  والشمس وضحاها لقد أنجاك الله من عواقب وخيمة لاتحمد عقباها))

كذلك كان المنصور بارعاً في تسلق الأشجار لاسيما النخيل ومن فرط قوته وشجاعته أنه كان يتسلق جذع النخلة بحذائه حتي يصل إلى عراجينها فيلتقط البلح ويصطفي الرطب بيسر و براعة. 

*******

  ١١- (الحكمة والدهاء) 

لقد أعير أستاذنا إلى اليمن السعيد ورفيق مغتربه الأستاذ محمد السيد الوصيفي حيث نزل بموضع يمني يسمى (السدة بوادي بنى) وكم كان اهلها كرماء يتصفون بالجود والسخاء وقيم البذل والعطاء وشيم العروبة الشماء، فكان يدعى للولائم والعزائم من قبل الشيوخ وذوي العمائم فأحب اليمن في حله وترحاله وظل على تواصل مع تلامذته وطلابه ورجاله

وكلما هبطوا مصر زاروا أستاذهم فأجذل ضيافتهم وأكرم نُزُلَهم.

لكن الجنة اليمنية الغناء لم تعدم رياضها من تواجد بعض الخبثاء؛ ذلك أن يمنياً من أهل صنعاء اقترض مبلغاً من أستاذنا على سبيل السلفة ووعده برده في غضون شهرين، فذهب أستاذنا في موعد الوفاء إلى صنعاء لاسترداد أمواله وفقاً لميثاق الأمناء وكلمة الشرفاء

لكن الرجل تملص من وعده فغاضت مروءته وأبان عن قبح طويته ولما ألح أستاذنا عليه أقسم ألا يعطيه ريالاً واحدًا وقال له:” أيها الوافد الكليل اذهب واشرب من النيل فلن أعطيك ريالاً واحدًا فتلك أموالنا التي نهبتموها وبلادكم أولى بكم منا فلترحلوا عنا وتنفكوا منا فكم حاربتم شعبنا وقتلتم ثوارنا ثم أعرتم لبلادنا كي تنهبوا خيراتنا!!! 

فأدرك المنصور أنه أمام يمني موتور لايكن لأرض الكنانة أي فضل مأثور

فاستشار أستاذنا صديقه الوصيفي الفطن الندي في حل تلكم المعضلة خاصة وأنه لم يتبق على سفره نهايه العام سوى ثلاثة أيام فقط فنصحه الرجل بالذهاب إلى هذا المدين الجاحد اللعين وتهديده قائلاً:”والله لئن لم تسدد دينك المستحق فسوف أفضحك بين الأنام وأرفع شكوتي إلى الإمام”

وبالفعل ذهب المنصور إلى الدار فخرجت زوج الرجل في بهاء ووقار وأخبرته أن زوجها فارق البيت منذ ساعة من نهار، لكن أستاذنا لم يتراجع عن خطته فأفضى إليها بقضيته وأسمعها عبارته وشكايته ثم انصرف عن دارها فارتعدت من الخوف وصكت وجهها وعلى الفور نادت على بعلها

حيث حذرته من شكوى المعلم الهمام لأنه في طريقه الآن حيث قصر الإمام

ولك أن تتخيل منظر الزوجين وهما يجريان حافيين وراء المنصور لعلهما يدركاه قبل أن يقع المحظور فأدركاه وأوقفاه فالزوجه تتوسل وتنوح والزوج يترجى بصوت مبحوح و أستاذنا صارم ثابت على موقفه بكل وضوح…. ولم تلن قناة منصورنا الهمام ويعدل عن ذهابه إلى الإمام إلابعد أن أخرج اليمني ما في جيب معطفه وماتبقى في سياله جلبابه فراجع الحسابات وعد الريالات، وأخذ أستاذنا دينه وفات بعد أن كان حقه في عداد الأموات!!!! 

******************

١٢- روح الدعابة

فكم كان الأستاذ باز يتغلب على ناظره المنصور في لعبة تنس الطاولة فيغيظه َويتندر عليه مباهياً بفوزه مرات ومرات على أستاذه الذي علمه وكان الأستاذ يسرها في نفسه حتى أنه أقسم على ولده إيهاب ذات صباح أن يتغيب عن الذهاب للجامعة كي يلتقي الأستاذ باز في مباراة ثأريه لينتصف له ويسوي غريمه على الجنبين وبالفعل تغيب الأستاذ إيهاب وفاز على خصم والده بإحدى وعشرين نقطة وكان عدد أشوط اللعبة في القديم ثلاثة جيمات أما الآن فصارت خمسة جيمات

وكم كان الأب يطرب لفوز ابنه ويبدأ في مناوشة خصمه بعبارات التندر والتهكم على سبيل الدعابة

أما نجله أشرف فلم يكن يغضب لفرمان والده وتبعات تغيبه عن المحاضرات في يوم المباراة؛ لأنه كان يعتبر والده بمثابة أخيه الأكبر؛ فلا يرضى له الحزن والانكسار بل العزة والفخار، وكان يقول لوالده الأستاذ : “ياحاج طول ما أنا موجود فظهرك مسنود ولن يزعلك حسود أو يغلبك خصم منكود…. ومن تجرأ عليك فإنه مفقود مفقود يا أبتي “

وكم كانت تلك العبارة واقعاً ملموساً وسلوكا مأنوساً عند نجله الأوسط إيهاب فذات يوم هبط مفتش الكهرباء على المزرعة، وقرر تحرير محضر مخالفة وكان قدرها مائة وعشرون جنيهاً فلم يعبأ نجله الأوسط بالغرامة لكنه غضب من لهجة المفتش وحدته في مخاطبة والده المربي الفاضل فما كان من نجل أستاذنا إلا أن جرى خلف المفتش وكاد أن يفتك به

قائلاَ:” أتدري من تخاطب ياطريد الشوارع وجليس المصاطب….؟!! لكن الموظف اختفى فلا أثر له على جسر المصرف يُقتفى!

وبعد أسبوع من الواقعة جاء نذير بريدي بضرورة دفع الغرامة، فتبسم أستاذنا ضاحكاً وقال:” هذه عاقبة نخوتك وشهامك ياسبع العرين تجاه المفتش المسكين أن أدفع مرتب شهر جزاءً للغرامة الموجعة ونقضي بقية الشهر على الخبز والمسقعة،،، صحيح بات كلب تصبح سبع!!! “

بعدها تبسم المنصور وبانت نواجذة الغراء ثم علاضحكه حتى ملأ الفضاء!

ومن دعاباته أن الأستاذ صديق سويلم كان يعلم مدى عشقه للتوأم الأهلاوي حسام حسن و شقيقه إبراهيم، فكلما ترضاه لأمر ما جاء بصورة ملونة للاعبين وأعطاه إياها وفي إحدى المرات اقامت مدرسة البرعي معرضًا فنيَا في مختتم النشاط الصيفي وقد شاركت في هذا المعرض بعدة لوحات رسمتها بقلم الفحم كان من بينها صورة تجمع التوأم وما أن وقعت عين الأستاذ صديق علي اللوحة حتى اختطفها من يدي قبل تثبيتها على السدابة الخشبية لحائط العرض وهرع بها صوب مديره المنصور الذي تلقاها بإعجاب مقبلاً إياها ثم قال: “ما أروعها من صورة والله لو ترك هذان اللاعبان النادي الأهلي إلى نادٍ أخر لأشجعن هذا النادي حتى لو كان الزمالك”

لكن القدر لم يمهل أستاذنا ليفي بقسمه حيث انتقل اللاعبان إلي الغريم التقليدي للأهلي في الثامن من أغسطس عام ٢٠٠٠م أي بعد وفاة أستاذنا ببضعة أشهر؛ إذ توفي -رحمه الله – في شهر إبريل من العام نفسه. 

ومن طرائفه التي أتذكرها أيضًا أنني التقيته يومًا إبان المرحلة الثانوية عندما كان يجلس مع جدي في فناء حديقة منزلنا فهنأ جدي بانتقالنا للمنزل الجديد ودار بينهم حديث طيب ولذيذ وفي ثنايا الحوار سأله جدي عن حال مزرعته فأخذ يتندربسوق الدواجن وكسادها وتذبذب أسعارها حيث قال: ((يامولانا الشيخ أحمد تربية الدواجن كلعب القمار إذا ارتفع السعر كان النفوق والبوار وإذا طاب الوزن أضحت الفرخة أرخص من الخيار!!! “

*******************

 *القوة البدنية

فقد كان أستاذنا في شبابه وقبيل إصابته بداء السكري

مفتول العضلات ذا قوام رياضي مثالي وساعد عنتري قوي حتى أن ولده الأستاذ أشرف وقتما كان في طور الصبا جاءه ذات مساء يشكو له تنمر بعض الأشقياء

ومضايقتهم إياه كلما راح وجاء، فذهب المنصور على الفور واستوقف هؤلاء الشباب الأربعة ونهرهم، ثم صفعهم وأوجع بدنهم وعن إيذاء الصغار منعهم َوردعهم ولم يقو واحد منهم على منازعته أو النظر في وجهه قط!!!

كذلك مما يدل على قوته البدنية أنه قد استعار من جيرانه حمارًا لنقل مايلزم من تبن ونشارة للمزرعة وما أن هيأ إيهاب الحمل الأول من الدريس فوق غبيط الحمار وما أن همزه للمسير حتى فوجئ برفصة قوية أصابت قفصه الصدري وطرحته بعيدًا فطار في الهواء وسقط على رأسه تنزف منه الدماء ، هنالك غضب الوالد الهصور وهاله منظرنجله المغشي عليه ولم يشعر أستاذنا الموتور بسوى ساعديه يحملان الحمار وما على ظهره من تراب وأوزار فأطاح بهما بعيدًا كالبطل المغوار!!! 

وكم كان الرجل قوي الغضب ينازع ويكافح لكنه سرعان مايهدأ ويسامح

**********

*(الصرامة مع طلابه)*

حيث كان حازمًا في موضع الحزم شديد المراس والعزم لينًا في موضع اللين يعامل طلابه بحكمة وميزان ولا يعنيه عائلة علان وسطوة فلان فالكل أمام عصاه سيان يستوي في ذاك وريث الأطيان وابن الفران وكم كان يبدع في تدريس قواعد النحو و الإملاء ويدرب الطلاب على الفصاحة وحسن الإصغاء وإكسابهم مهارات المطالعة والإنشاء كما كان يفيض ويزيد في شرح الدراسات ويتقن رسم الخرائط واللوحات وتحديد مواضع البلدان من القارات

لم يجعل الدرس الخاص شاغله وهمه ولم يضطهد طالباً لم يطرق بيته ويشخشخ جيبه بل كان أكثر ضراوة مع طلاب درسه

وكان الرجل يتطوع قبيل الاختبارات بعمل مراجعات مجانية لطلاب شهادة القبول ففي الساعة الخامسة من الأسبوع الأخير كان يحشر طلاب الصف السادس الابتدائي – وقوامهم فصلان كاملان- في صالة منزله القديم ولاتنتهي حصة المراجعة اليومية كل مساء إلا مع أذان العشاء

 

********************

(الانضباط في العمل)

فقد عمل بصافوراء بكل انضباط وإتقان وإخلاص وتفان وعندما عمل خارج بلدته لم يتكاسل أو يتوان

؛ حيث كان يذهب إلى مدرسة طحا المرج منذ الصباح الباكر فيكون أول الموقعين في دفتر الحضور والناهضين إلى أرض الطابور كما كان آخر المنصرفين من الرحاب بعد ذهاب المعلمين وخروج الطلاب ولا يطمئن قبل أن يؤمن الفصول والأعتاب ويغلق النوافذ والأبواب. كذلك كان يذهب إلى عزبة العرب نهارًا ثم يركب مطيته ويهبط بلدته فيتغدى ثم يمتطي حماره مرة أخرى ويعود مرة أخرى إلى مدرسة العزبة من أجل متابعة القسم الليلي ثم يعود أدراجه إلى صافوراءمع دقات العاشرة مساءً ولك أن تتخيل طريق العودة ومافيه من عقبات ومنغصات تشيب لها الرؤوس فالطريق مظلمة، مدججة بالكلاب الضالة ناهيك عما نسجه الأجداد ممن أساطير وخرافات تتصل بجنية القناطر البيض كما لاتعدم أن تسمع في سكون الليل الشتوي عواء ذئب ينبعث من فدان قصب قصي ولا تنتهي المخاوف عند هذا الحد فمع وصول الدابة إلى مشارف القرية لابد أن يلقي صاحبها السلام على سكان المقابر والأجداث وإلا جعل واردها عقله يلتاث

بيد أن أستاذنا لم يكن يعبأ بتلك العقبات النكباء إذ كان يحصن نفسه بآية الكرسي وأذكار المساء

وقد أبرز الأستاذ باز وهو أحد تلامذة المنصور الذين درسوا على يديه هاتين السجيتين السالفتين بأحرف من نور أذكرها لكم كما كتبها في مذكراته بتصرف يسير من العبد الفقير حيث قال:”ثمة مواقف فى حياتى مع معلم الأجيال أستاذى العزيرمنذ الصغر حتى الكبرالأستاذ الفاضل معلمي الجليل العظيم منصور محمد محمد عبد العال

عرفته منذ الصغر إذ كان معلمًا للرياضيات وكنا نفهم على يديه كل الدروس بطريقة سهلة يسيرة وكان رجلاً وسيمًا جدًا والله العظيم كما أصف فعينه الزرقاء الجميلة كم كنت دائمَا أحب النظر إليها وأتأمل وجهه الباسم الجادالذى ترتعد منه فرائسنا كنا نخافه ونحبه نحن التلاميذ الصغار في ذات الوقت نعم كنا نحبه حبًا جما ونحب كل خصصه وفى أيام العطلات والإجازات المدرسية كنادنذهب إلى حجرة السينما بالوحدة المحلية حيث يوجد تليفزيون واحد فى البلدة بأسرها وكان مفتاح غرفة العرض ودولاب التلفاز مع الأستاذ المحترم فكنا نسرع ليلاً إلى الوحدة المجمعة ونصطف حيث صالة العرض الكبيرة لنجلس فيها منتظرين أستاذنا لنشاهد برامج التلفاز والأفلام القديمة وكنا نعرف مواعيد الأفلام؛ فكان رحمة الله عليه يحنو علينا ويهدئ من روعنا لأن الاماكن كلها كانت مظلمة آنذاك إلا قليلاً من البيوت ماأروع هذه الأيام الجميلة التي لا تنسي أبدًا حيث معاملته الطيبة لنا أثناء العرض و بعد الانتهاء من الفيلم أو البرنامج كان يمشي معنا ويرافقنا إلى منازلنا كم كان يعطف على الجميع هذه واحدة أما فى مجال عمله فكان جادًا يحب الحق ولايخشى فى الله لومة لائم وكم كنت دائمًا أنظر إليه لأتعلم منه فأرصد كل تصرفاته وسلوكياته وحركاته وسكناته حقًا ياله من معلم كبير عاش محبًا لعمله وفيًا لرسالته حتى سافر فى إعارة إلى اليمن وكم كان اليمنيون يحبوه مثلنا فمكث بين ظهرانيهم أربع سنوات وتهافت اليمنيون على التجديد لأستاذنا ليتعاقدوا معه بعد المدة القانونية الإعارة، لكنه رفض وآثر الرجوع إلى الحبيبة مصر ومرت الأيام والسنوات وكبرنا وصار الطالب معلمًا والمعلم ناظرًا فعينت معلمًا بذات المدرسة التي درست فيها صغيرًاتخرجت فيها غصنًا نضيرًا وذات صباح وجدت أستاذي يطل علينا بطلعته البهية وأناقته الزكية وكم كانت المدرسة على بكرة أبيها كلها في فرحة غامرة بقدومه لكن بعض المعلمين توجسوا منه خيفة وتوترت نفوسهم من هذا المدير الجديد لحزمه المعهود وعدله المشهود بيد أنني غمرتى فرحة عارمة ولما لا فأستاذي مديري يالها من فرحةوكان معى أخى الأكبر الحاج محمد على سليمان أبو ياسر فكانت فرحته كبيرة هو الآخر وكم كنت انظر إلى حركاته وكل كلمة يتكلمها لأتعلم منه طرق التدريس الصحيحة وكيف أتعامل مع الزملاء والزميلات.

لقد كان مديرًا ناجحًا بمعنى الكلمة؛ فكان ينصف المظلوم ويردع الظالم حتى أنني أتتذكر أنه فى يوم من الأيام أسند إلى تدريس اللغة العربية للصف السادس بيد أن القرار لم يرق أحد الزملاء فقدم شكوى يستند فيها إلى كوني غير متخصص في هذه المادة ثم صعد تلك الشكاية لجهات عليا بالإدارة ثم الوزارة؛ للفصل فى هذا الأمر إلا أنه- رحمه الله وجعل الجنة مأواه- أصر على رأيه ولم يستطع أحد إثناءه عن القرار وانتصر لي أولاً قبل أن يحكم المعنيون لي بعد ذلك وظللت منذ هذا اليوم أدرس اللغة العربية وتم نقل المدرس الشاكي إلى مدرسة أخرى. 

 رحمك الله أستاذى الجليل ومعلمى العظيم أما عن المستوى الشخصى والاجتماعى، فقد كان محبًا للجميع يهش للأضياف ويقابلهم فى بيته مقابلة الكرماء، يريد أن يأتى لك بكل خير فى بيته – وسع الله على أبنائه وذريته-كما كان محبًا للرياضة حبَا جما خاصة رياضة تنس الطاولة إذ كان من سنته أن يعلق جلبابِا خاصًا فى غرفته بالمدرسة وكانت هناك ترابيزة كبيرة للعبة التنس كما كان يمر بي ويقول تعالى معى فى إجازة الصيف بعد انتهاء العمل كي نجرى معًا وكنا نجلس كالأخوة في الفصل الموجود به الترابيزة نلعب بعضزالوقت ثم نتسامر مع محبى التنس بالمدرسة والله كان يغلبنا جميعا ومن الصعوبة كل الصعوبة أن يغادر عرينه المدرسي مهزومًا!!!

آآآه والله لقد أرجعتمونى بالذاكرة إلى الأيام الخوالي التي لاتمحى من ذاكرتى بأي حالِ ذكرتموني بأستاذى الجليل الذي ظللت أراقبه عن قرب وأتامله عن بعد فأعد كل خطواته وسكناته لقد كان مديرًا ناجحًا حتى زاع صيت مدرستنا بين كل المدارس وأضحى المعنيون والتربويون والمفتشون ياتون إليها من كل مكان إلى يومنا هذا، فسرنا على دربه ونجحنا أن نكمل حلمه…. يااااه….. ودارت الأيام وياليتها مادارت حيث خرج أستاذي الحبيب إلى المعاش وظللت علي وده ووصاله حتى كانت لحظة الوداع وجاء دوري لأتولى من بعده زمامها لأجلس على مقعد أستاذي الروحي مديرَا لمدرسة البرعي فتقمصت روح أبى ومعلمي وقدوتي وكم جاهدت كي أسير على دربه حتى كتب الله لى النجاح فى كل مدرسة أقودها واتواى زمامها خاصة تلك المدرسة التي كنت بها طالبًا ثم دخلتهامعلما تحت قيادة قدوتى وأستاذي واسألوا كل من كان معنا من هذا الرعيل

رحمك الله أبى العزيز الهصور الأستاذ منصور

ولعل آخر موقف اختم به هذه السيرة الطيبة كان بين والدى رحمه الله الحاج أحمد باز الكبير ووالدى الاستاذ منصور ففى أحد الأيام بعد زواجى بشهر إبان الثمانينيات حدثت مشكلة بسيطة بين زوجتى وأحد الموجودين فى البيت وكان البيت آنذاك بيتًَا عائليًا كل زوج وعقيلته فى غرفة واحدة هكدا كانت تتسع القلوب قبل البيوت وحدثت مشادة بيني وبين أحد الأخوة فلم يعجب كلامي أبي وغضب وهددني قائل: سأشكوك للأستاذ منصور ليقتص منك وحينها كنت معلمَا وفعلاً ذهب أبي إلى أستاذي الجليل وقص عليه حكايته بالتفصيل وأخبره في ثناياها بأننى أنتوي طرده من البيت، لكن أستاذي تبسم وواجه الأب بصرامه وأصر على أن باز لايمكن ان يصدر عنه هذا العقوق أو يخطر على باله ثم طلبنى فذهبت إليه ووجدت والدى جالسًا بجوار مقعد المدير وهويعرف أنى أقدر أستاذى وأجله لذلك اشتكى له بأني أنتوي طرده فقلت بأدب :كيف يكون ذلك وأنا لاأملك سوى غرفة واحدة حقيقة أستاذى لم يصدق واستحلف أبي أن يقول الحقيقة فأقر أبى – والحمدلله- أنه لم يحدث ذلك ولكن تلك الرواية التي نسجها كانت من قبيل التهديد فحسب رحم الله أبي و أستاذي الجليل العلامة الكبير الأستاذ منصور محمد محمد عبد العال”

تلك ذكريات الأستاذ باز أحمد باز مع أستاذنا المنصور كما كتبها في مذكراته بكل حب وحبور

********************

    (الروح الوطنية)

فكم كان أستاذنا قوميًا ناصرياً قلبه مفعم بحب مصر ومناصرة جيشها مؤمنًا بعظمة تاريخها وجسارة شعبها يحزن عند الهزيمة ويألم عند الفاجعة الأليمة ويطير فرحًا للانتصار وقوة العزيمة

ففي ذكري مذبحة بحر البقر كان له موقف مشهود : 

  ففى صباح يوم الثامن من أبريل عام١٩٧٠م أذاعت الإذاعة المصرية البيان التالي:

( أيها الأخوة المواطنون ، جاءنا البيان التالي .. أقدم العدو في تمام الساعة التاسعة وعشرين دقيقة من صباح اليوم على جريمة جديدة تفوق حد التصور ، عندما أغار بطائراته الفانتوم الأمريكية على مدرسة بحر البقر الابتدائية المشتركة بمحافظة الشرقية و سقط الأطفال بين سن السادسة و الثانية عشرة تحت جحيم من النيران) .

فياله من يوم مشؤوم على كل مصري ومعلم أبي عندماشنت القوات الجوية الإسرائيلية هجومًا غادرًا صباح يوم الثامن من أبريل عام ١٩٧٠ و تحديداً فى تمام الساعة ٩:٢٠ صباحاً ، حيث حلقت خمس مقاتلات من طراز إف ٤ فانتوم الثانية التابعة لسلاح الجو الإسرائيلى الغاشم و قامت بشن غارتين جويتين على مدرسة بحر البقر الإبتدائية المشتركة تلك المدرسة المنكوبة التي تقع في منطقة الصالحية بمركز الحسينية بمحافظة الشرقية حيث كان بناؤها عبارة عن طابق واحد بحتوي على ثلاثة فصول قوام طلابها قرابةمائة وخمسين تلميذًا ،وإبان الغارة كان بعض التلاميذ في عرين العلم منهمكين في فصولهم لأجل الدراسة وتحصيل العلم ، أما البعض الآخر فكان يلعب في فناء المدرسة متأملاً سماء الريف الصافية ومايحلق فيها من حمائم بيضاء بقلب نقي وضاء ، يتسائلون ماذا يحمل المستقبل لهم تثمينًا لجهدهم ونقاء كدهم وتحصيلهم، لكن تلكم الأحلام تحولت إلى ركام؛ إذ أظلمت السماء فجأة واسودت على غرة وتلوثت بعادم الفانتوم وسواد قلوب من بها؛ ففزع الصغار لعواء محركات الطائرات المعادية وأزيزها حيث اغتالت طفولتهم بوابل من صاروخين وخمس قنابل تزن الواحدة منها ألف رطل بلا رحمة لطفلة أوشفقة بطفل فلم يمهلوهم حتى يستغيثوا بآبائهم و أمهاتهم إذ أضحت مناجل الغدر تتساقط على فصولهم وفنائهم، فتحولت اللوحة الفنية إلى كابوس مظلم ، أشلاء تلاميذ تضرجها الدماء

وأرواح زهر اجتثتها مناجل الفناء، فتطالع رأس طفلة بجوار حذاء وكم من كراريس محترقة تحمل رسوماتهم البريئة التي أصبحت ملونة بحمرة الغادرين وحرقة المعتدين وقد أسفر الهجوم الغاشم عن استشهاد ثلاثين طفلاً وإصابة خمسين فيالخسة هؤلاء المجرمين!! 

لم تنكر إسرائيل الجريمة في البداية ، بل ادعت أن المدرسة كانت هدفًا عسكريًا ، فقد أكد موشي دايان وزير الدفاع الإسرائيلي وقتها بأن المدرسة التي قصفتها طائرات الفانتوم كانت هدفًا عسكريًا ، و أن المصريين يضعون فيها بعض الأطفال على سبيل الخداع والتمويه ، و بعث وقتها يوسف تكواه ، مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة ، برسالة للمنظمة الدولية كتب فيها : إن تلاميذ المدرسة الابتدائية كانوا يرتدون الزي ذا اللون الكاكي ، و كانوا يتلقون التدريب العسكري!!

فيالهذا المتعجرف الكاذب!!!

وقد اغتاظ أستاذنا من هذا الكذب والتدليس والإفك الذي فاق إبليس فاعتلى منبرالإذاعة الصباحية لمدرسة أبي حريز التابعة لكفر صقر وكان مديرها آنذاك، وخطب خطبة حماسية صباح اليوم التالي للفاجعة التي آلمت مصر بأسرها فنند بالغادرين وكشف زيف المتآمرين وفضح الصهاينة الأنذال المجرمين قتلة الأطفال

كما كان يحب السادات جدًا وآلمه اغتيال الرئيس الزعيم بطل العبور العظيم، حيث استشهد عام ١٩٨١م وكان وقتها أستاذنا معارًا إلى اليمن.

أما موقفه من العبور العظيم فحدث ولاحرج ففي يوم السادس من أكتوبر العاشر من رمضان عام ١٩٧٣م كان أستاذنا قد صلى الظهر وخرج لتوه من المسجد برفقه صديقه الأستاذ عبد الفتاح بحبح وفي طريق سيرهما لمنزل المنصور سمعًا دوياً يهز السماء وأزيز طائرات يشق الفضاء فأبصرا سربا من المقاتلات يصول ويجول ويقطع سماء الدلتا في لمح البصر متوجهًا نحو سيناء وقتها ظن الصديقان أنها مجرد مناورة رمضانية روتينية لقواتنا الجوية وما أن استويا على حصير ٍ بالمقاعد (الطابق الثاني) لأستاذنا حتى بدأت الأنباء تترى بطلائع البشرى فقد عبرت قواتنا المسلحة قناة السويس ودكت حصون العدو الرخيص، وكم كان الأستاذان على حذر وحيطة

فلم يفرحا في البداية أو يحدثا هرجًا وزيطة مخافة أن تكون تلك الأخبار المذاعة على غرار ماسمعاه من كذب وتضليل وخزعبلات وأباطيل في يونيو عام ١٩٦٧م!!!

فأسرع الأستاذان صوب إذاعة لندن ومونت كارلو كي يتأكدا من صحة الأنباء وبالفعل تأكدا أن قواتنا عبرت في تمام الثانية ظهرًا وكبدت العدو خسائر فادحة في الأرواح والمعدات فبكى المنصور من فرط الفرح واطمئن قلبه وانشرح وعلا تكبيرة ليهز الألباب فتجمع أهل الحي من الفلاحين والموظفين وسائر الشباب وتجمعوا حول أستاذيهما وهما يديران مفتاح الإذاعات ويستبشرون بما يستمعون في فرحة وسرور من بيانات جيشنا المنصور ولما حان وقت آذان المغرب أخذ الشيخ محمود الريس رحمه الله

جهاز (الزنكوغراف) من الحاج أحمد الباز كي يرفع أذان المغرب وكان هذا الجهاز القديم يشتمل على علبة تنهض بوظيفة الميكرفون وقد صلى أستاذنا المغرب وتناول الإفطار خارج المنزل هو وسائر أهل الحي فما من شارع أو زقاق إلا وتجد أهله يفترشون أمام بيوتهم يتحلقون حول صوت العرب في عزة وفخار ثم تأتي التنبيهات بإطفاء الأنوار تحسباً لغارت مضادة

وكم سمع الأهالي دوي انفجارت تصدر من جهة قاعدتي: (شاوة) و(سمبو مقام) لكن هيهات أن تنال من عزيمة شعبنا المقدام وأبطالنا العظام. 

***********

*الحرص على تربية أولاده فقد كان يعتبرهم بمثابة أخوته، يتعدهم بالرعاية حتى اشتد عودهم وتجاوزوا العقابيل والأخطار وارتادوا سفينة الحياة بمهارة واقتدار فنجلته الكبرى الأستاة إيمان منصور معلمتي العزيزة بالمرحلة الابتدائية (١٩٦١م) أحيلت للمعاش بدرجة وكيل مدرسة لصافورالابتدائية رقم (١) ونجله الأستاذ أيمن(١٩٦٢م) أحيل للمعاش بدرجة مدير عام

أما نجله الأستاذ إيهاب (مواليد ١٩٦٤م) فيعمل الآن مديرًا لإدارة التسويات والترقيات بمطاحن شرق الدلتا وكذلك نجله الأستاذ أشرف (١٩٧١م) يعمل كبيرًا للباحثين بدرجة مدير عام بمطاحن شرق الدلتا

أما نجله الأصغر الأستاذ أحمد (١٩٧٥م) فيعمل في وزارةالشباب والرياضة بمركز شباب قرموط صهبرة

لقد اعتنى المنصور بتربية أولاده وتقويمهم وتهذيبهم فلما توفت زوجته الأولى نجلة الشبخ أحمد الباز وكانروقتها ناظرا بطحا الابتدائية المشتركة اصطحب معه نجله إيهاب لعامين دارسيين وكم كان شديدًا معه يتابعه عن كثب ويدخل عليه فصله كل حين ويوصي به المعلمين ليقوموه ويهذبوه ويعاقبوه إن قصر ذلك أن سبب نقله لنجله من مدرسة صافور ما لمسه من تدليل لنجله إيهاب بعد وفاة والدته فكان المعلمون الصافوريون يتحاشون عقابه ويتورعون عن تأنيبه وتبكيته كسائر زملائه أوالشده معه بدعوى أنه يتيم وهذه الطريقة لاتروق أستاذنا الحريص على إصلاح أبنائه وتقويمهم، كذلك مما يدل على اهتمامه بتربية أولاده موقفه من نجلته الكبرى الأستاذة إيمان فعندما توفيت أمها كانت على أعتاب المرحلة الإعدادية فارتأى والدها أن يصطحبها معه إلى عزبة العرب وقتما كان مديرًا قيمًا على مدرستها، فكان يصحب ابنته خلفه فوق مطيته كل صباح ويقطعان عدة كيلومترات بين الترع والقنوات والأفدنة والمزروعات وكم كان الرجل حازمًا مع ولده وابنته فيعاقبهما ويوبخهما دون غيرهما من الطلاب!! بل كان يضربهما ضربًا خفيفاً على سبيل التهذيب والتقويم وكما كان الرجل حريصًا على أولاده شفيقا بهم فإنه كان حريصًا على مشاعر زملائهم؛ دليل ذلك أن الأستاذ الخلوق 

محمد الشحات العسكري كان أحد طلابه إبان المرحلة الابتدائية بصافوراء وكان من الطلاب المجدين الواعدين؛ لذا أحبه أستاذه لتفوقه وامتيازه وحدث أن والدة طالبه الأثير قد توفيت وهو في الصف السادس قبيل خوض اختبارات شهادة القبول فذهب إليه الأستاذ منصور وواساه وشد من أزره وظل ملازمًا له ولوالده حتى ذهبوا بنعش والدته إلى إحدى قرى ميت غمر حيث مسقط رأسها فرافق الطالب ووالده في موكب نقل جثمان أمه المتوفاة إلى حيث مثواها الأخير بمقابر أهلها، ولم يبرح الأستاذ الدقهلية حتى تم الدفن ثم حضر العزاء وقام بمواساة الطالب وأبيه وسائر أخواله أجمعين، ثم قفل راجعًا في المساء إلى صافوراء بعد معاناة نكباء جراء تعذر المواصلات بين القرى و البلدان وندرة سيارات الأجرة في هذا الزمان

 

**************

وكم صبر أستاذنا على مرضه الأخير جراء مضاعافات السكري حتى

فاضت روحه الطاهرة في الثاني عشر من إبريل عام ٢٠٠٠م لتودعه صافوراء وكافة القرى والأرجاء بحشود من طلابه وحوارييه ومحبيه ومريديه وكل من تتلمذ على يديه رحم الله عالمنا الجليل برنس المعلمين النبيل فكم صرنا نترحم على هذا الرعيل الجميل في زماننا الكليل!!!

بقلم راجي عفو ربه

د. أحمد محمد الشربيني

*************

مصاد المقال:

١-مرويات نجله أ. أيمن منصور

٢-ذكريات نجله أ.إيهاب منصور

٣-خواطر نجله أ. أشرف منصور

٤-الأرشيف المصور لدى نجله أ. أحمد منصور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى